إصلاح قبل فوات الأوان
" إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب "
تمر موريتانيا اليوم بمرحلة دقيقة تتطلب من الجميع النظر في الحال و المآل فالملفات الاجتماعية تتراكم دون حل وقضايا الشباب والأجيال الصاعدة لا تجد التقدير الصحيح فأحرى العلاج الناجع، والإجراءات المتبعة لمواجهة الغلاء غير كافية ولا مجدية، والبطالة تتوسع في ظل غياب سياسة جادة لعلاجها وفوضى وظيفية ناتجة عن الاكتتاب الزبوني وإبعاد هنا وهناك لأسباب سياسية أو اجتماعية، و لعل الكثيرين اكتشفوا أن شعار محاربة الفساد لم يجد ترجمة حقيقية على أرض الواقع الذي استمرت فيه مسلكيات الفساد المختلفة و لم تتضرر فيه مواقع كثير من محترفيه، وشهد الاقتصاد معاناة حقيقية نظرا لفوضى الاختيارات وتغليب العاجل الظاهر على الآجل و العميق، و لم تنفع الإجراءات والخطوات التي قيم بها (التوزيعات، الطرق المسفلتة، حوانيت التضامن 2011، توزيع القطع الأرضية، ...) في علاج هذه الوضعية إما بسبب غياب التأسيس التخطيطي أو الطابع الدعائي المبالغ فيه أو عدم الكفاية أو تجاهل العوامل الأكثر أثرا (زيـادة الـرواتب، شفافـية الســوق، توفــير الشغل، ..).
أما على المستوى السياسي فيتواصل الرفض العملي للنظام لحوار سياسي ينادي به الجميع و تحتاجه البلاد وظهر أنه في مثل هذا النوع من الظروف لا سبيل غيره ، يتعزز هذا الرفض بسياسة إعلامية أحادية خبرا ورأيا و بنظرة لا تعتبر شركاء الوطن و السياسة ، و لم يكن مصير الحوار الاجتماعي أفضل حيث تواصل السلطات التمنع من الحوار مع المركزيات النقابية الأكثر تمثيلا و ظل التجاهل هو السلوك المعتمد في التعامل مع مطالب الشغيلة .
و لم تعرف المواضيع ذات الصلة بالوحدة الوطنية و السلم الاجتماعي تعاملا يضعنا على طريق الحل والانسجام ودولة المواطنة ، فقوانين محاربة الاسترقاق معطلة و فقه و سلوك المساواة ضعيف في المجهود الرسمي، والاختلالات في تنظيم عودة المبعدين شمولا و ظروف استقبال لا تخفى على المتابعين لهذا الملف، ومازال شعور بعض ساكنة الوطن بالتهميش قائما .
أضيف لهذه الوضعية تسيير الملف الأمني الذي وضع القوات المسلحة في مواجهات غير محسوبة ، وتم علاج موضوع الإرهاب الذي يشكل خطرا على المنطقة كلها على نحو مرتبك لم تراع فيه مقتضيات الاحتياط ولا ضرورات التنسيق الإقليمي الجاد .
إن السبب الرئيس لما تعيشه البلاد من أزمات و مشاكل في هذه المرحلة يرتبط بشكل كبير بالأسلوب الانفرادي لإدارة الدولة الذي تكرس في فترة حكم الرئيس الحالي، حيث أصبحت كل القرارات تتمركز في يده بما في ذلك القرارات التي تخص قطاعات و مرافق ذات طبيعة فنية خاصة، هذا بالإضافة إلى عدم الانفتاح على المعارضة، ورفض التعاطي المباشر معها حول القضايا الوطنية الكبرى .
و من حولنا تستمر التحولات العميقة بإرادة الشعوب نحو الديمقراطية و دولة العدل و الكرامة ، فبعد التحول الديمقراطي في غينيا و تعبير الشعب العاجي عن إرادته التي مازال اكباكبو يعرقلها ، هاهي الثورات الشعبية تهدد وتطيح بأعتى المستبدين في تونس و مصر و ليبيا .
انطلاقاً من كل ذلك و استحضاراً للأوضاع الداخلية و الإقليمية، فإن إصلاحاً جذرياً لا يضيع الوقت ويتسم بالصدق و المصداقية بات أمراً ملحاً من أجل تفادي انزلاق البلاد نحو المزيد من الأزمات وتدهور الأوضاع المعيشية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية.
و نحن في التجمع الوطني للإصلاح و التنمية " تواصل " تأسيسا على مرجعيتنا الإسلامية وتحملا لمسؤوليتنا الوطنية نرى أن محاور هذا الإصلاح هي :
أولا : الإصلاحات الدستورية و السياسية و الاقتصادية :
إن أي إصلاح حقيقي ينبغي أن يبدأ دستوريا حتى نؤسس لمنع الأحادية و لتوزيع السلطات و الثروات ولتفعيل الرقابة و حماية الحقوق و الحريات ، و الترجمة الأولى لهذه المعاني تكون في السياسة والاقتصاد ، و من هنا فإن الأولويات التالية على المستوى الدستوري و في ميداني السياسة و الاقتصاد أصبحت مطلوبة :
الشروع في تعديل عميق للدستور يستهدف مزيدا من اللامركزية و توزيع السلطات و يبدل النظام الرئاسي ذي القابلية الواضحة للاستبداد بالنظام البرلماني الذي يعطي أكثر الصلاحيات التنفيذية لرئيس وزراء مسؤول أمام البرلمان ، و يعطي للبرلمان سلطة أقوى وأوضح للرقابة و التحقيق، ويجعل السلطة القضائية في كامل الاستقلالية ، و يوفر الأرضية الصلبة لدولة المؤسسات الحقيقية .
رفع اليد عن القضاء، و توفير الأجواء الكافية له معنويا و ماديا لقيامه بدوره في توفير العدالة بعيدا عن أي توجيه أو تدخل من السلطات التنفيذية، و القطيعة التامة مع توظيف القضاء لتصفية الحسابات أو النيل من المخالفين .
اعتماد الشفافية الحقيقية في تسيير الشأن العام، وتوفير المعلومات و المعطيات الحقيقية عن ممتلكات وصفقات الدولة للبرلمانيين وأحزاب المعارضة، و إعلان الممتلكات المصرح بها للرأي العام خصوصا بالنسبة لذوي المسؤوليات العليا في الدولة وإضافة أسرهم في وجوب التصريح بالممتلكات.
إنهاء كل مظاهر حزب الدولة التي ظهر بعضها أخيرا، و إبعاد الحكومة عن التماهي مع الأحزاب، والمنع الصارم لتسخير وسائل الدولة في الحملات الانتخابية و جعل وزارات الداخلية و الدفاع في يد شخصيات مستقلة معروفة بالنزاهة، وحظر الانتماء السياسي على القائمين على الإدارة الإقليمية، وربط بعض التعيينات الحساسة (المؤسسات الكبيرة و وظائف عليا) بموافقة البرلمان، و دعم الأحزاب السياسية و الصحافة والمجتمع المدني معنويا و ماديا مما يجعلها وسائط فاعلة في خدمة الديمقراطية .
إبعاد القوات المسلحة و قوات الأمن وأفرادهما عن الحقل السياسي، و إعطاؤهما بعدا جمهوريا ووطنيا حقيقيا بعيدا عن أي اصطفاف سياسي أو عرقي أو جهوي أو قبلي .
مراجعة السياسة الأمنية في مواجهة الإرهاب بما يضمن وطنيتها الخالصة بعيدا عن الأجندة الخارجية ويؤدي للإجماع عليها و بما يخدم حماية الوطن و المواطن في إطار تشاور إقليمي فعال .
مراجعة النظام الانتخابي بالتشاور التام مع مختلف الأطراف السياسية وعلى نحو يعزز النسبية ويجعلها لا تقل عن 60 في المائة في لوائح النيابيات، و يؤدي لاستقرار المجالس البلدية ويضمن الآليات الكافية لعدالة و شفافية الانتخابات و من أهمها أن تكون الانتخابات تحت الإشراف الكامل للجنة مستقلة ذات مصداقية يتم التشاور عليها و أن تحمل هذه اللجنة صفة الاستمرارية، ويؤمن استقرار التمثيل من خلال اعتبار المقاعد تابعة للأحزاب لا للأشخاص .
تحويل وسائل الإعلام الرسمية إلى وسائل إعلام عمومي حقيقية مفتوحة للجميع و أمام الجميع، وإلغاء وزارة الإعلام مع جعل الهيئة العليا للسمعيات البصرية أكثر ديمقراطية من حيث التكوين وآليات العمل، ووضع آليات لاختيار القائمين على المؤسسات الإعلامية تضمن استقلاليتهم .
الشروع في إصلاح إداري شامل ينتقل بالإدارة الموريتانية من أوضاع الترهل و الفساد و العجز إلى مستوى يستجيب لتطلعات المواطنين، و جعل الولوج إلى الوظيفة أو الترقية فيها خاضعا لمساطر شفافة تقوم على الكفاءة و تحكمها العدالة، و تحرير الوظائف الفنية من التسييس، والقطيعة الحقيقية مع منطق القبيلة النافذة أو الأسرة النافذة، و منع الجمع بين قوة التجارة ونفوذ الوظيفة .
إخضاع السياسة الاقتصادية لمنهج علمي واضح بعيدا عن الارتجالية، وتسييرها على نحو يشجع الاستثمار ويدفع بالتنمية إلى الأمام، ويوفر أجواء الشفافية والتنافس الحر بين مختلف الفاعلين الاقتصاديين.
جعل الدولة من حيث السلوك و القوانين و الإجراءات جاذبة للاستثمارات الخارجية معينة على اطمئنان أصحابها .
المحاربة الجادة والعملية والمقنعة للفساد، وتجاوز مرحلة إعلان ذلك إعلانا تستمر معه مسلكيات الفساد ويتداول بعض رموزه المواقع هنا و هناك .
ثانيا: تعزيز المواطنة و حماية الوحدة الوطنية :
إن أهم عوامل الدولة العادلة هو مفهوم المواطنة و جعل الانتماء للوطن هو معيار الحقوق والواجبات، من هنا يكون علينا في هذا البلد الذي عانى من مهددات حقيقية لوحدته و عانى مواطنون فيه في مواطنتهم أن نعيد للمواطنة معناها و مقتضاها و أن يكون ذلك أساس الوحدة الوطنية التي تحتاج إعادة بناء و تعزيز و لعل النقاط التالية ضرورية في هذا المجال :
جعل التعدد العرقي عامل ثراء وتكامل وجعل كل المواطنين من خلال سلوك الدولة وإعلامها يحسون بمواطنتهم ، و إنهاء التهميش الذي يحس به بعض المكونات الوطنية .
محاربة كل مظاهر الاسترقاق وجميع مخلفاته وذلك بتفعيل القوانين الخاصة بذلك، والإسراع بتطبيق سياسة تفضيلية في توزيع الموارد و بعض المشاريع و الخدمات لصالح المجموعات المتضررة من هذه الظاهرة أو من مخلفاتها .
إعادة النظر في ملف المبعدين على نحو يسوي جميع القضايا العالقة سواء تعلقت بالحالة المدنية أو بظروف الحياة الكريمة التي يلزم توفيرها لهم على نحو يعوضهم عن الظلم والإبعاد، و التصرف الجاد تجاه من بقي من المبعدين في السنغال أو من كان منهم في مالي .
احترام كرامة المواطن لدى السلطات الإدارية و الأمنية ، و اعتبار الاعتداء على كرامته مستوجبا للعقاب ، وجعل الموظف العمومي مهما علا منصبه خادما للشعب .
5- نشر ثقافة المواطنة الجامعة والتعامل الصارم مع مستغلي النفوذ الوظيفي أوالقبلي أو العرقي أو الفئوي.
ثالثا: الظروف المعيشية والمطالب الاجتماعية :
إن الظروف التي يعيشها المواطنون غير قابلة للاستمرار نظرا لشدة ضغط الغلاء و تواضع الرواتب لمن يتقاضاها ، وتستمر البطالة في تحطيم حياة مجموعة مقدرة من الشباب الذين استعدوا و تأهلوا ليجدوا أنفسهم في وضع العاجز في حين يرون غير المؤهل أو ضعيف التأهيل في أحسن الوظائف و المواقع، من هنا تكون الاقتراحات التالية حدا أدنى :
1 ـــ تخفيض أسعار المواد الضرورية بشكل حقيقي وملموس و تحديد مواد أساسية تدعم على نحو فعال، والتفكير في اعتماد بطاقة التموين للأسر المعدمة .
2- رفع الحد الأدنى للأجور و مخصصات التقاعد وزيادة الرواتب زيادة معتبرة، و جعل تطورها موازيا لمسار الأسعار حماية للقدرة الشرائية للمواطنين، وأن يصحب ذلك بسياسات تمنع التضخم .
3 ـــ ضبط السوق و تفعيل الرقابة عليه و جعل التنافس فيه شفافا على نحو يساعد على الحيوية و يحد من الاحتكار و الاستغلال.
4 ــ خلق فرص عمل حقيقية و معتبرة و واسعة لامتصاص البطالة المتفشية بشكل كبير بين صفوف الشباب وخاصة حملة الشهادات، و تنظيم الاكتتاب على نحو شفاف في المؤسسات العمومية و الهيئات والشركات والمشاريع .
5 ـــ تسوية وضعية العمال والموظفين في أكثر من قطاع و مؤسسة على نحو يعيد لهم حقوقهم و يمنع التلاعب بهم مستقبلا، ووضع خطة جادة لحل مشكلة العمال غير الدائمين في اتجاه ترسيمهم و تمتيعهم بحقوقهم كاملة.
6- فتح حوار اجتماعي جاد مع المركزيات النقابية حول أوضاع الشغيلة ومطالبها، والكف عن سياسة التجاهل المعتمدة تجاه النقابات .
7- إشراك جميع الأطراف و الجهات المعنية في التحضير للأيام التشاورية حول التعليم، و التعامل مع هذا الموضوع بجدية و صراحة تخرجه من دائرة التجربة و الخطأ، و تضع له مسارا صحيحا يراعي ثوابت وحقائق البلد و يجعله عاملا للتنمية و التطور.
8- إعطاء عناية خاصة للشباب والنساء ووضع سياسات حقيقية لحل مشاكلهم بعيدا عن الشعارات الاستهلاكية التي لا تصحبها رؤية و لا يتبعها عمل.
تلك أهم النقاط و الإجراءات التي يتصور "تواصل" أنها قادرة على مساعدة البلد للخروج من الوضعية الراهنة و فتح آفاق حقيقية أمامه على طريق الحرية و الكرامة و الديمقراطية ، و نحن إذ نطرح هذه الرؤية ونقدمها للجميع سلطة و أحزابا و قوى حية من نقابات و شباب و مهنيين ، يحدونا الأمل أن تجد آذانا صاغية و عقولا واعية فالبلد محتاج والمبادرة متعينة ، و البداية تكون بالدعوة الصريحة والسريعة لحوار فوري هذه أهم محاور ورقتنا له .
" إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ".
و الله الموفق و الهادي إلى سواء السبيل
المكتب السياسي
الموافق 28 / 02 / 2011