د.عبدالله عطا محمد عمر
تعرضت الأمة الإسلامية في تاريخها الطويل إلى العديد من المصاعب بل والقواصم، ولكنها في كل مرة تخرج أقوى مما كانت، وقل أن تجد أمة من الأمم واجهت ما وجهته هذه الأمة من النكبات وبقيت صامدة، ولكن الأمة الإسلامية رغم كل ما لاقته فلم ولن تؤثر فيها الأحداث، مهما تنوعت الأحوال ومهما اشتدت ظروف الزمان والمكان.
إن أعظم ما يمكن أن يصيب الأمة الإسلامية أو ما أصابها فعلاً هو ما نراه في أيامنا سيطرة روح الانهزام عليها أمام أعدائها، مما أدى إلى ضعف همتها، وعجزها عن مجرد التفكير في عوامل نهضتها، نعم لقد بلغت الأمة الإسلامية مبلغاً من التقهقر والهوان جعلها تتنقل من نكبة إلى نكبة، وتهوي من نكسة إلى أخرى.
ولكن من مصائبنا في هذا الزمان أن هذه الأمة التي أراد الله لها أن تكون خير أمة أخرجت للناس، امتثالاً لأمره سبحانه حيث يقول: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران: 110] وقوله: سبحانه: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة: 143] أبت إلا أن تكون في ذيل القافلة، ويأبى القائمون عليها إلا أن تكون مكسورة الجناح، بانغماسهم في الترف الذي غرقوا في أوحاله، وبكونهم يحملون روح الانهزام بعد أن كان أجدادهم وأسلافهم يحملون مشاعل النور، ومصابيح الهدى، عندما كانوا يتبعون قدوتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله رحمة للعالمين، من هنا فإن حاجة الأمة أصبحت ماسة لأن تعرف كنه المرض الذي أصابها وحقيقته، وأن تقف على التشخيص الصحيح لحالتها التي باتت لا تسر أحداً من أبنائها.
نعم قد تنهزم هذه الأمة، وقد تضعف، ويصل بها الضعف إلى المستوى الذي نحن فيه، ولكنها بإذن الله تعالى لن تموت، ولن تنهزم أبداً، فإن حصل أن انهزمت في ميدان المعركة، فليس معنى هذا أنها تنهزم في كل الميادين، نعم قد تخسر جولة من الجوالات، وقد تتيه حقبة من الزمان، وقد ينتصر عليها أعداؤها في ميدان معركة نفسية، أو فكرية، ولكنها ستبقى دائما أمة متجددة، بكون رسالتها خاتمة الرسالات، وستبقى تمثل الظاهرة الفريدة في تاريخ الإنسانية، فكل الأمم والامبراطوريات كانت تصعد وتقوى، حتى تصل إلى درجة معينة ثم سرعان ما تعود إلى ما كانت عليه، وقد تندثر، كما حصل هذا مع دولة الفرس، والروم، ومع الحضارات كلها، إلا هذه الأمة الإسلامية، فهي أمة الثبات والصمود، استطاعت أن تؤثر على المتغلب عليها، فقد حولت المغول المتوحشين إلى مسلمين، وكانت تجربتها معهم ومع التتار تجربة فريدة، تأثر فيها الغالب من المغلوب، ودخل المنتصر في دين المنهزم حين دخلوا في لإسلام عن طواعية.
انقسمت هذه الأمة وتفرقت في عقيدتها إلى عشرات الفرق، ودخل عليها عبر تاريخها العديد من الأفكار والآراء الباطلة، وكان منها العديد من الحركات الباطنية التي نعرفها والتي ظهرت في فترات الضعف، ولكن هذه الأمة بقيت وستبقى شامخة بإذن الله تعالى، بقيت تعتز وتحتفظ بكتاب الله تعالى (القرآن الكريم)، لم تبدله ولم تقبل أن يتغير منه حرف واحد، وحافظت على السنة النبوية الصحيحة، وحفظ علماؤها لها الصحيح من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبقيت سيرته العطرة، مرجعاً ومنبعاً لكل من يريد أن يتأسى به صلى الله عليه سلم، وظلت هذه الأمة وستبقى أمة حية، قادرة على العطاء في كل ميادين الحياة، لكل من ينشد الصفاء والنور في جميع مجالات الحياة، في الفكر والقيم والأخلاق، وفي شتى ميادين الحياة.
تعرضت هذه الأمة العظيمة إلى كافة أنواع الغزو، الغزو الفكري والعسكري، والثقافي، والاقتصادي، وشن عليها الأعداء من أنواع التشويه والتضليل مالا يحصى، ورموهم بكل ما أمكنهم من سهام الغدر والخديعة، وحاربوهم بكل أنواع الأسلحة التي استهدفت دينهم وثقافتهم قبل تستهدف أجسادهم وأبدانهم، ولكن هذا التضليل السياسي والفكري الذي مارسوه ويمارسونه ليل نهار في عالم المسلمين سيكون في نهاية المطاف لمصلحة الإسلام والمسلمين، يصدق فيه قول الله سبحانه وتعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ) [النور:11].
فرغم كل هذا التشويه والتضليل، ورغم قسوة العداء الذي يمارسونه، فإن أبناء هذه الأمة ما زالوا ثباتين لم يستسلموا، ولم يهنوا، إنما القلة القليلة هم من استسلم وخنع، ولم يتعد هذا الخنوع أفراداً من أبناء هذه الأمة، قد يكثرون في بعض الأوقات، ولكنهم مهما ازداد عددهم فهم شرذمة، أما الكثرة الكاثرة فكانت ولا تزال عصية عن الخضوع، وستبقى تتلمس طرق الخلاص، وتبحث عن سبل النهوض، وعن المخارج التي يمكن من خلالها أن تحقق ما تصبوا إليه من علميات الإنقاذ لهذه الأمة، مما تواجهه من غزو في شتى المجالات.
ولا شك أن أنجع الطرق وأسلها للخروج من هذا التيه الذي تعيشه هذه الأمة، بل وأسرعها على الإطلاق هو بالرجوع إلى تعاليم ديننا الحنيف، بأن ندور مع القرآن الكريم حيث دار، وأن نستقي منه ومن السنة الصحيحة ومن سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ومن تجارب العظماء في تاريخنا العظيم، ومن سجل حضارتنا القويم، وأن نستلهم من جميع ذلك أنواع الهداية وطرق الرشاد، ونأخذ منه العبر التي نستنير بها في مثل هذه الظروف العصيبة التي نمر بها، أملاً في الخروج منه، في محاولة لتجديد الحقائق التي عايشها أسلافنا، بأسلوب يتماشى مع معطيات هذا الواقع الجديد.
إن مهمة هذه الأمة مهمة عظيمة، فهي الأمة التي اختارها الله لقيادة الإنسانية وتوجيه البشرية نحو النور والخير، فعليها أن تُعطي الحياة دفعة قوية من معين خزائنها المليئة بأنواع الشموخ والانتصارات، وأن تضيء لهم من منارات الهدى، وأن تسير بهم إلى مدارج النهوض والرقي الحسي والمعنوي، دفعة تحقق للبشرية النفع والخير في مجال الأخلاق والسلوك، قبل أن تحقق لهم نهضة في مجال المصنع والألة، نهضة تعنى الإنسان جسماً وروحاً، نهضة تسهم بكل ما حباها الله تعالى في حل مشاكل هذا العالم المتأزم، لأنها هي الأمة الوحيدة التي تملك هذا النصاب من مثل هذه القيم والتعاليم، فهي الأمة الوحيدة القادرة على إحداث مثل هذه النهضة، نهضة لا تستقل بالأدوات بعيداً عن عالم الروح والأخلاق، ذلك لأن أي نهضة يمكن أن تحصل للبشرية لا تعنى بالأخلاق والقيم إنما هي نكسة على الإنسان، وستكون طريقاً يوصل البشر إلى التنازع والاقتتال بلا شك، إن ما تحتاج إليه البشرية في أيامنا هذه هو نهضة تقوم على الأخلاق قبل أن تقوم على المصانع والآلات، نهضة تسعى إلى تحقيق إنسانية الإنسان قبل كل شيء، نهضة تستجيب إلى دواعي الفطرة السليمة.
لا شك أن مثل هذه الحضارة التي تقوم على مثل هذه المعاني والقيم لا يمكن أن تقوم إلا باسم الإسلام، ولا يملك زمامها وأدوات إنتاجها إلى تعاليم القرآن المتمثلة في قيمه وأحكامه، والمنطلقة من قول الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107] وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) [متفق عليه] هذه الأمة فقط هي الوحيدة التي تملك مثل هذا التصور، ولا شك أن هذا المعنى هو عنوان النصر الذي لا يمكن أن يهزم، النصر الذي يدخل في بنية الحياة وأهدافها، النصر الذي يغيّر ويعدل مجرى التاريخ ويبقى يتجدد مع تجدد الزمان والمكان.
مخطئ كل الخطأ من توهم أو يتوهم أن بإمكانه أن يلحق الهزيمة بأمة هذه مواصفاتها، أمة ذات حضارة وقيم إنسانية سامية، أمة لعبت وما زال بإمكانها أن تلعب دوراً كبيراً ورائداً في بناء حضارة جديدة، يمكنها أن تخلص الإنسانية كل الإنسانية من أشكال الضياع والتيه الذي تعيشه في ظل حضارة المادة، تلك الحضارة التي أفقدت الإنسان قيمته، وما زالت تسعى بكل قوة إلى أن تفقد أمنه واستقراره واطمئنانه، لأنها لا تركض إلا خلف المال وتوابعه، من أشكال المادة المحسوسة.
ويبقى السؤال الكبير: كيف يمكن أن تعود الأمة الإسلامية إلى ما كانت عليه ؟ أو إلى ما ينبغي أن تكون عليه، لا شك أن هذه الأمة الإسلامية تملك خصائص رئيسية تتمثل في فكرها الإسلامي، بأنواعه الثقافي والاقتصادي وغيره، ما يمكنها أن تستخدمه كسلاح ضد التحديات الفكرية الأيديولوجية، ذلك أن النموذج الإسلامي يتصف بالنظرة الكلية والتوازن وبتحقيق مصلحة المجتمع، ومصلحة الفرد معاً.
ومما ينبغي التنبيه إليه في هذا المقام أن التدافع والصراع الحضاري هو سنة من سنن الحياة، وهو أمر لازم لنمو الحياة وامتدادها، واستمرار التاريخ، لذلك كان لا بد منه ليتميز البشر بعضهم من بعض، ويظهر الحق على الباطل، وتختبر وجهة الإنسان وصبره واختياره، قال تعالى: (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) [الرعد: 17].
ولهذا فإن المطلوب اليوم أكثر من أي وقت مضى أن يعود القائمون على قضايا الإسلام من القادة والعلماء إلى عملية التعبئة العامة للمسلمين في كافة الميادين، وذلك لمواجهة الهجمة الشرسة التي تتعرض لها أمتنا هذه الأيام، وأن ندرك أبعاد وسائل الغزو بانواعه ، التي يعمل بها في بلاد المسلمين، في حقبة الاستكبار الصهيوني العالمي، وذلك في محاولة منا إلى تحقيق النهوض الحضاري، والوصول إلى الحصانة الحضارية، والمناعة الفكرية للأمة، والحيلولة دون سقوطها، بما يراد لها في هذا الزمان، وهو الخطر الذي يتعاظم يوماً بعد يوم، والله تعالى نسأل أن يوفق القائمين على أمر هذه الأمة من العلماء الصادقين وأولى الأمر الذين تعنيهم مكانة هذه الامة ويسعون إلى أسباب نهضتها وعلو مكانتها، بأن يلهمهم الرشد ويهديهم ويوفقهم إلى سواء السبيل، ويسدد على طريق الحق خطاهم أجمعين.
* إسلام.ويب