بقلم: وائل قنديل
في وقت يتحول فيه حمدين صباحي من "واحد مننا" إلى "واحد من إياهم"، وتنتقل حركة "كفاية" إلى الغناء للدولة العسكرية "كفاية نورك عليا"، كان لزامًا أن تنبت التربة المصرية زرعًا جديدًا مثمرًا، ينير الأرض وينقي الهواء، ويعيد إلى الكون بعضًا من اتزانه.
بالأمس، خرجوا يناضلون لاسترداد كرامتهم في شوارع وميادين القاهرة والمحافظات، بينما أرادها "بكوات النضال" العاطلون احتفاليات وكرنفالات، على طريقة "أين تذهب هذا المساء؟"، تبدأ وتنتهي في وقت معلوم.
سقطت سندس فخيّم عليهم الصمت، ثم سقطت شيماء، شهيدتين، فتحدث بعضهم بعنصرية وضيعة، يرثو "الاشتراكية"، ويتجاهل طفلة الـ15 عامًا ذات الغطاء الأبيض الناصع على رأسها، صنفوها سياسيًّا وأيديولوجيًّا، على الرغم من أنها لم تستخرج بطاقة هويتها بعد، أو تتشكل فكريًّا، فقط هي محجبة وقتلت في تظاهرة. إذن، هي إخوانية إرهابية لا تتذكرها مرثيات الأدباء، إلا من عصم ربك من موت الضمير، كصديقي الشاعر والمترجم وأحد أصوات شعر التمرد والجموح في السبعينيات، محمد عيد إبراهيم، الذي رصد التناقض المفجع بكلمات بسيطة، قال فيها:
ولأنها من فصيل "الإخوان"، يتناساها الناس!
لكن الدم يسمو فوق أيّ تصنيف، الدم لا يفرّق، الدم غالٍ، الدم شاهد وشهيد!
دمها، على أي حال، في رقبة النظام! مثلها، مثل شيماء، سواءٌ بسواء!
الرحمة للشهيدة/ سندس أبو بكر (16 سنة)
قُتلت أيضًا في مظاهرة سلمية يوم 23 يناير، قبل مقتل شيماء الصباغ بيوم!
أكثر من عشرة شهداء صعدوا حتى عصر أمس، في حشود ازدانت بها كل جنبات مصر، لم يذهب إليها الإعلام. وحدها مقاطع البلوتوث وتكنولوجيا الموبايلات الذكية وقفت إلى جانبهم، تحصي أعدادهم، وتنقل وقائع استشهادهم، بعيداً عن بؤرة الضوء، فيما انشغلت العدسات الماجنة بعشرات، بل خمسات، حملتهم سيارات الأمن وحرستهم قوات الداخلية، وهم يتراقصون على إيقاعات بوليسية، على بعد أمتار من المكان الذي قتلت فيه الداخلية شيماء الصباغ.
صورة شديدة الإسفاف والركاكة، ومع ذلك وجدت من يضع لها عنواناً يقول "مظاهرات مؤيدة وأخرى مناوئة للنظام".
هي العنصرية التي لم ينج منها إلا قليلون من النخبة المصرية، من هؤلاء الذين نجوا من الهوان والشوفينية، الناشطة اليسارية، عزة سليمان، التي رأت بعينيها كيف قتلت الشرطة شيماء، فتوجهت للإدلاء بشهادة حق، كانت نتيجتها أن النيابة حولتها من شاهدة عدل وضمير إلى متهمة!
رحمة الله بهذا المجتمع احتفظت له بنماذج محترمة، مثل عزة وغادة نجيب وصفوان محمد، وعديدين من الاشتراكيين والليبراليين الحقيقيين في مواجهة قبح طافح من كل اتجاه، جعل واحداً مثل حمدين صباحي، بتاع الناس الغلابة، وأكثر مَن استفاد مِن "الإخوان المسلمين" سياسياً، ينعي شيماء "الاشتراكية"، ويتجاهل، باستعلاء الإقطاعيين المنقرضين، سندس، الطفلة، على الرغم من أن قاتلهما واحد.
هذا القبح المهين، أيضاً، هو الذي جعل اشتراكياً عتيداً، هو الأستاذ، عبد الغفار شكر، مؤسس التحالف الشعبي، لا يجرؤ على غسل يديه وسمعته من عضوية "مجلس حقوق إنسان العسكر"، كنوع من تسجيل الاحتجاج على مقتل شهيدة التحالف الشعبي شيماء.
لقد أرادها المناضلون المتقاعدون حفلة "ماتينيه" في الذكرى الرابعة للثورة، فيما رأى الثوار الحقيقيون أنها لم تعد ولن تكون ذكرى، هي نضال متحقق على الأرض، ومسيرة مقاومة، تمضي في طريقها حتى الوصول إلى غايتها، من دون كلل أو ملل.
ولكل هذا وغيره، لم يكن يوم أمس مثل أيام "جمعة" امتدت بطول 19 شهراً، وعلى ذلك لا أتصور أن الذين خرجوا فيه سيعودون راضين قانعين، حين يرخي الليل سدوله.
فإن لم تستطيعوا أن تكونوا معهم، لا تكونوا عليهم، واحترموا صمودهم، واعلموا أن أمس كان يوماً فاصلاً، وما بعده مختلف تماماً عما قبله، والكلمة للأيام.
نقلا عن العربي الجديد