بسم الله الرحمن الرحيم
التجمع الوطني للإصلاح والتنمية (تواصل)
رؤية (تواصل) للوحدة الوطنية
قال تعالى : "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ"
وقال صلى الله عليه و سلم: "كل المسلم على المسلم حرام، دمه و ماله وعرضه"
يتجدد النقاش والتداول كل مرة حول قضية الوحدة الوطنية في موريتانيا بمختلف جوانبها وإشكالاتها، وقد أسهمت أحداث عديدة في مختلف مراحل تطور الدولة الموريتانية في هذا التجدد سواء منها تلك المتعلقة بالبعد العرقي أو تلك المتصلة بموضوع الاسترقاق ممارسة ومخلفات أو تلك الكاشفة عن المسألة الفئوية والتركيبة الاجتماعية، وليس لحزب مثل (تواصل) بمرجعيته الإسلامية الجامعة واهتمامه الوطني الذي لازمه منذ نشأته إلا أن يعطي لموضوع الوحدة الوطنية ما يستحق تأسيساً وتنظيراً في وثائقه العامة (الرؤية الفكرية، الإعلان السياسي، النظام الأساسي) ومواكبة وحضوراً (المواقف والبيانات والعلاقات)، ولكن كل ذلك لم يكن كافياً خصوصاً أنه في كل منعرج هام أو مناسبة دالة يطرح من جديد سؤال التعايش والانسجام ويُعاد التساؤل عن مدعماتهما وعن مهدداتهما، وهكذا رأى (تواصل) أنه يلزمه تخصيص هذا الموضوع برؤية شاملة ومقاربة واضحة يقدمها للموريتانيين آملاً أن تكون إسهاما جديا في حماية وحدتهم وتوفير حقوقهم وقطعا مع كل الأطروحات والممارسات التي تكرس ظلما أو تنتج تجزئة.
مدخل عام
دون الدخول في حفريات التاريخ ودون الاهتمام بتفاصيل كل مرحلة من مراحله يحصل الاتفاق بين أصحاب التخصص وذوي الاهتمام أنه على هذه الأرض المسماة اليوم "الجمهورية الإسلامية الموريتانية" تعايشت مجموعات متعددة ذات أصول مختلفة، وأنه رغم توتر العلاقة بين بعض هذه المكونات أحيانا وضمن سياقات تاريخية معروفة فإن المنطقة لم تشهد حروبا عنصرية من النوع الذي شهدته بلاد مثيلة ومجتمعات شبيهة، ومثّل الإسلامُ ـ بطبيعته الجامعة ورسالته الشاملة ـ عنصر التواصل الأقوى وعامل التعايش الأبرز، ولعل الفترات التي كان الإسلام سائدا فيها هي أكثر الفترات التحاماً وتعايشاً بينما مثّلت مراحل الكيانات الجزئية والعصبية أكثر الفترات فُرقة وصراعاً ..
وهكذا تميزت مرحلة المرابطين ذوي الدور الأبرز في نشر الإسلام وترسيخه في هذه الربوع ثم مراحل التجارب الإصلاحية الدعوية والسياسية في المجموعات العرقية الرئيسية بالأجواء الوحدوية والأخوية وهو ما حفظه التراث المكتوب عن تلك المراحل نثرا وشعراً ..
وجاء دخول الاستعمار الذي اشتهر بسياسة إذكاء التناقضات وغزو الثقافات ليزيد المشاكل ويترك في الجسم الوطني الذي سيصبح دولة عوامل توتير على المستويين الثقافي والاجتماعي، ولم تكن الدولة التي نشأت إثر الاستقلال في 28 نوفمبر 1960 تملك رؤية واضحة لبناء وطن جامع يقوم على عقد مواطنة يطمئن له الجميع ويُطَمئن الجميعَ، ومع اتخاذ الجمهورية الناشئة للصفة الإسلامية ـ وهو دليل على أنه عند التباين والتنازع يمثل الإسلام الجامع المشترك ـ فإن فلسفة التسكين والمعالجة المحدودة ظلت المنهج المفضل عند السلطة والتي ظلت عاجزة عن القيام بدور الحَكم المحايد تجاه الاحتكاكات العرقية والثقافية المختلفة خصوصا بعد بروز المشكل العرقي والثقافي واضحاً منذ أزمة 1966 (المظاهرات والاحتكاكات التي أعقبتها اعتقالات) مما راكم التحديات والصعوبات؛ ومنذ انقلاب 1978 الذي توسع على إثره الطرح القومي والعرقي في الساحة ازدادت التحديات وتعقدت الصعوبات؛ وكانت فترة الرئيس معاوية ولد سيد أحمد الطايع أكثر الفترات مأساوية في هذا الملف خصوصا بعد توزيع منشور 1986 (منشور الزنجي المضطهد) والاعتقالات التي جاءت على إثره والمشروع الانقلابي لسنة 1987، وكانت أزمة 1989 بين موريتانيا والسنغال محطة مؤلمة ظُلم فيها وقُتل الموريتانيون في السنغال ووقع ذات الشيء للسنغاليين في موريتانيا، ولكن الأمر أخذ مداه الأخطر بالاستهداف الممنهج الذي عامل به النظام الموريتاني المكون الزنجي والذي سيتعمق في سنتي 1990 و1991 وهو ما انتهى إلى إبعاد وقتل وتشريد الكثيرين وأدى إلى شرخ عميق وجرح غائر في جسم الوحدة الوطنية وأصبحت هناك مطالب طرحها سياسيون وحمل مشعلها حقوقيون بتسوية الإرث الإنساني وجبر كل تلك المظالم. ومع كل محاولات التهدئة اللاحقة ومع المبادرة الجريئة لنظام الرئيس سيد محمد ولد الشيخ عبد الله بإعادة المبعدين والاعتذار باسم الدولة الموريتانية وما تبعها من إجراءات حتى الآن لترميم العلاقات الوطنية سواء تعلقت بالتعويضات النسبية أو بالصلاة التي أقيمت في كيهيدي فقد ظلت الأزمة قائمة ولم يحصل الاطمئنان المطلوب وهو ما يجعل الموضوع العرقي والعلاقة بين مختلف المكونات وحصول عقد مواطنة حقيقية أمراً مطروحاً يستحق التناول ويلزم في شأنه وضوح الرؤية.
أما مسألة الاسترقاق ومتعلقُها موقع ومكانة الحراطين في الدولة والمجتمع فلم تُطرح مبكراً مثل موضوع التعايش العرقي، ورغم ذكر هذا الموضوع في بعض وثائق المستعمر ومع بدايات دولة الاستقلال إلا أن أول من طرحه كان حركة اليسار التي ستبرز في النصف الثاني من الستينات، ولأن الموضوع لم يكن يحتمل أن يظل مثل غيره من المواضيع في التناول والاهتمام وربما دونها لم يأت النصف الأول من السبعينات إلا وبوادر ومؤشرات استقلاله إطاراً وطرحاً بادية للمتابعين، وهكذا ستشهد البلاد ميلاد حركة الحر، ومن هنا بدأت هذه القضية تأخذ مكانها في اهتمام كل الأطراف بما فيها السلطة و التيار الإسلامي الذي تركزت إسهاماته في المجال التعليمي و الدعوي العام ، ومع أن عدم الإقرار بوجود الظاهرة رافق مختلف السلط من الفترة المدنية إلى العسكرية ورغم الحملات التي ستُـشن لاحقا على كل المنظمات والجهات التي تطرحه واتهام أغلبها بتشويه البلد والصلة بالخارج فإن كل الأنظمة التي تعاقبت لم تستطع تجاهله بل وسنت قوانين صريحة أو مضمرة تتعلق به؛ فإضافة إلى ما عرف بقانون الرئيس هيدالة (81)، جاء قانون 2003 حـول المتاجرة بالأشخاص في آخر عهد الرئيس معاوية ثم جاء قانون تجريم الاسترقاق (2007) في الفترة الديمقراطية مع الرئيس سيد محمد ولد الشيخ عبد الله، ثم أخيراً جاءت التعديلات الدستورية التي خرج بها حوار 2011 في عهد الرئيس محمد ولد عبد العزيز ..
كما شهد الموضوع حضورا متزايداً في أدبيات واهتمامات مختلف التيارات والأحزاب والمنظمات مما ولّد حالة إجماع يتفاوت أطرافه في التصريح والتركيز على رفض الاسترقاق والنضال ضده وضد مخلفاته عند البعض وضد مخلفاته فقط عند البعض الآخر ..
ومع كل هذا يظل الموضوع مطروحا في كل المكونات الوطنية ويظل تحديد الموقف والسلوك في شأنه مطلوباً وهو ما عمد إليه حزبنا في وثيقة سابقة مخصوصة له ويجدده اليوم ضمن رؤيته الشاملة حول الوحدة الوطنية.
تشخيص المشكل
إن المهاد العام السابق يمثل أرضية تساعدنا على تحديد الموضوع وتشخيصه؛ فالوحدة الوطنية عنوان يشمل مختلف القضايا ذات الصلة بانسجام الساكنة ووحدة البلاد أرضاً ومواطنين وبالتالي كل العناوين التي تمس الموضوع العرقي والثقافي أو الموضوع الاجتماعي والحقوقي أو الموضوع الفئوي أو الموضوع الجهوي والمناطقي ..
يطرح الموضوع العرقي مشكلة التعايش بين القوميات ومسألة اللغات واطمئنان الجميع إلى دولة تضمن أصالة التنوع وتحمي ضرورة التعايش، كما يطرح ماضي انتهاكات حقوق الإنسان وما خلفه من أزمات وما ترتب عليه من ضحايا و قتل خارج القانون ، ويمثل المبعدون اليوم مظهرا لذلك بكل ما يعيشونه من تحديات الاندماج و عدم توفير الخدمات المناسبة والحقوق خصوصا في مجالي الأراضي والحالة المدنية .
ويطرح الموضوع الاجتماعي الحقوقي إشكال الاسترقاق والقضاء التام عليه ومحاربة كافة مخلفاته وآثاره في سبيل دولة توفر مواطنة ومساواة لكافة مواطنيها مع التعويض بالتمييز الإيجابي عن سابق التهميش وحاضر الإهمال ..
ويطرح الموضوع الفئوي مسألة الفئات الاجتماعية داخل كل مكون من المكونات الوطنية والذي نتج عن تراتبية أدت إلى تهميش وظلم على المستويين المعنوي والمادي مما يقتضي الدخول في عهد التكافؤ والقطيعة مع كل أشكال الازدراء والإبعاد حتى يطمئن الجميع لخيمة الدولة وحاضنة المجتمع ..
ويطرح الموضوع الجهوي قضية الجهات والمناطق والحاجة إلى التوازن في الاهتمام والعناية والتنمية حتى تتكامل أطراف الوطن وتحس كل جهة ومنطقة أنها في صلب اهتمام المركز سواء من خلال التعليم والصحة وسائر الخدمات أو من خلال ما اصطلح عليه بأقطاب التنمية تركيزاً على الخصوصية الاقتصادية لكل جهة فتتطور وتسهم بتطورها في تطور الوطن ..
ويعاني موضوع الوحدة الوطنية بأبعاده الأربعة هذه مخاطر نوعين من الطرح: نوع يتجاهل هذا الواقع ويرفض استحضاره ويتنكر لما هو واقع من تضييع للحقوق و اختلال في ميزان القوة والتأثير والنفوذ والثروة .. ونوع يبالغ في الحديث عن هذا الواقع ويـتناوله بمنهج فيه الإثارة والاستفزاز ولا يقر بما تحقق في حياة المجتمع من تطور يمكن توسيعه والاستفادة منه بدل إنكاره ودفع محيطه إلى الممانعة ..
الرؤية في منطلقاتها
إننا في حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية (تواصل) ـ استحضاراً للتطور التاريخي للموضوع والطبيعة المركبة لإشكالاته المختلفة، وتأسيساً على الرؤية الفكرية الصادرة عن المؤتمر العام للحزب ـ نقدم رؤية تتأسس على جملة أمور:
الأول: هو المعنى الإسلامي في النظر للاجتماع البشري، فقد حسم القرآن الكريم ـ وقد نزل أولَ ما نزل والعرقيات والعصبيات متحكمة في النفوس ـ هذا المعنى في قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ".
قال ابن كثير: "فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية إلى آدم و حواء عليهما السلام سواء، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية وهي طاعة الله تعالى ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم".
وجاء في الحديث الصحيح: "يا أيها الناسُ إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضلَ لعربي على عجمي ولا لأسودَ على أحمر إلا بالتقوى، خيركم عند الله أتقاكم".
وهكذا أصبحت كل القوميات والأعراق والقبائل والشعوب متكافئة الفرص متساوية الحظوظ .. فالمقدمة للأتقى لربه والأنفع لشعبه.
وفي سياق يحدد الولاء الحقيقي ويقطع مع ولاء الجاهلية جاء في الحديث الصحيح: "إنّ الله قد أذهب عنكم عُبْية الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب" ..
وبأسلوب الاستنكار ثم النهي والزجر الصريحين حتى مع مجتمع مثل مجتمع الصحابة فمن باب أولى غيرهم "أبدعوى الجاهلية وأنا بين ظهرانيكم"، "دَعوها فإنا مُنتنة" في إشارة واضحة إلى الاستنصار بالأهل والعصبة.
الثاني: أن الإسلام ـ تاريخياً ـ جسّد هذا المعنى وأوجد مجتمعا مسلما متنوعاً وجدت فيه كل الشعوب مكانتها ووجد المستضعفون حقوقهم، وكانت المؤاخاة التي جمعت حمزة بن عبد المطلب مع زيد بن حارثة وجمعت بلال بن رباح مع خالد بن رويحة الخثعمي وجمعت أبا بكر الصديق مع خارجة بن زيد بداية عهد جديد غير قواعد الانتماء والتفاضل ..
وقد أبرز الحافظ ابن الصلاح في مقدمته في علوم الحديث عند النوع الرابع والستين (معرفة الموالي من الرواة والعلماء) صورة رائعة عن كراسي العلم والفقه في مختلف الأمصار والتي آلت في أغلبها الأعم إلى الموالي، وكيف أن الفرصة الإسلامية أتاحت لهؤلاء مكان الريادة والرواية؛ وقد اختتم الزهري المحاورة بمقولته المشهورة لعبد الملك بن مروان: "يا أمير المؤمنين .. إنما هو أمر الله ودينه، من حفظه ساد ومن ضيعه سقط" ..
وما الانحراف الذي حدث في تاريخ المسلمين وبروز دعوات العصبية والاستعلاء إلا مظهرا لذلك الانحراف العام الذي تراجعت فيه الأمة عن سبب منعتها وبالتالي عن كثير من اعتبارات دينها ومنها اعتبار العلاقة الإسلامية التي تعلو غيرَها وتهذب النفس البشرية النزّاعة نحو العرق واللون وولاء القبيلة والجهة.
الثالث: أن الرؤية التي اختارها الحزب في التعامل مع موضوع الاسترقاق سواء في ممارسته أو في مخلفاته وآثاره تتأسس على نظر إسلامي أصيل يعتبر الشارعَ يتشوف للحرية وأن الشريعة أغلقت أبواب الاسترقاق ورغّبت في أسباب العتق ومخارجه حتى وصلت عتقَ الهازل وأنها وضعت من الموجهات والأحكام ما ينتهي إلى القضاء على هذه الظاهرة، تعزّز ذلك بتاريخ الاسترقاق في هذه البلاد الذي خالف الشرع في مصادره وخالفه في ممارساته وتطبيقاته ..
وهكذا فإن شرعاً يدعو للحرية ويتخير الوسائل لإنفاذها وتاريخاً محلياً غلب فيه الاعتداء والخطف وواقعَ وطنٍ يتطلب الانتصار لمواطَنة حقيقية يجد فيها الجميع موقعَه وحقه كاملاً غير منقوص .. كلها تدعونا لبلورة تصور صريح قاطع ضد ظاهرة الاسترقاق ومخلفاته وانخراطنا في قومَة وطنية تنهض بضحايا هذه الظاهرة في سبيل مجتمع مسلم تسوده الأخوة وينعم بالمساواة ..
الرابع: أن هذه البلاد متعددة عرقيا واجتماعيا وفئويا وأن هذا التعدد نعمة وثراء إن لم يأسر أصحابه وأطروه في إطار الجامع الإسلامي والوطني ... وأن ألسن هذه البلاد ـ كما أقر دستورها ـ عربية وبولارية وسوننكية وولفية ... وأن اللغة العربية هي لغة البلاد الرسمية لأنها لغة القرآن الجامع لكل المكونات والقوميات بعيداً عن كل معاني الفرض والهيمنة ..
والمجتمعات المتعددة الأعراق والألسن والثقافات لا يضرها شيء ولا يهددها شيء مثلما يضرها ويهددها الخطاب القائم على العصبية أو الرؤية المؤسسة على الاستعلاء والإلحاق، ولنا أن ننظر في التاريخ وفي العالم من حولنا كيف تُهدّ مجتمعات وتفسد دول بسبب الصراعات القائمة على العرق أو الساعية لهيمنة قوم على قوم ..
إن الإقرار بالتعدد إنصاف لأن النفي خطأ وعواقبه وخيمة وتأطيره في إطار الوحدة القائمة على العدل والمساواة ضرورة لمصلحة الوطن والمواطن ..
الرؤية في معالمها
ولأن المعالم ليست المنطلقات ويلزم فيها التحديد والتفصيل فإننا في (تواصل) نرى ضرورة تجاوز العموميات والنص على ما يلزم وينبغي في قضية يتعلق بها مصير هذه البلاد وأهلها ..
1) هناك ضرورة للإنصاف والإقرار بأنه في هذه البلاد وقع ظلم وتهميش لعدد من المكونات وعلى رأسها ضحايا الاسترقاق ومجتمع الحراطين، كما عانت مجموعات اجتماعية أخرى في مختلف الأقطاب العرقية مظاهر من هذا التهميش والازدراء مثل المعلمين وغيرهم؛ و قد عرف المكون الزنجي بدوره قدرا من الحيف والتهميش خصوصا بعد سنوات الألم 89 و90 و91. من هنا فإن الترميم المعنوي القائم على الاعتراف ثم الاعتذار مطلب و ضرورة و هو ممهد لغيره من جوانب الترميم الأخرى.
إن الاعتراف بهذه الحقائق والاعتذار عن هذه المظالم ليس موجها لمكون ولا مجموعة لأن الأخطاء تُنسب للآحاد المسؤولين عنها أفراداً أو أنظمة، ولأن التجاوز يتطلب الجميعَ ودورُ الجميع فيه مطلوب، ولقد ساهم الكل ـ للأمانة والموضوعية ـ في دعوة التحرر والمساواة، والظلمُ لا يُزال بمثله، والانتقال في فكر العدالة أولى من الانتقام، فالأول يُفيد والثاني يدمر .
2) إن الحل المطلوب لموضوع الوحدة الوطنية ليس اجتماعيا وثقافيا فحسب ولا سياسياً أو حقوقيا فقط .. إلخ، وإنما الوارد والمطلوب هو مقاربة شاملة تأخذ في الاعتبار كامل الأبعاد بالتوازي في أغلب الأحيان. إن الديمقراطية حل للإشكال السياسي، وقيام الدولة على الاختيار الشعبي الصحيح هو المدخل لدولة الحق والعدل والقانون، ولكن بالمقابل ليس خطأ ما يقوله البعض إن الديمقراطية هي ترجمة سياسية لميزان القوى الفعلي وهو مختل اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، وبالتأكيد ليس الاستبداد هو الذي يساوي الفرص ويحقق تكافئها ..
من هنا فإن عملاً وطنيا متكاملا ومتوازيا يحقق الديمقراطية في السياسة وينهض بالمستضعفين اجتماعياً ويميز إيجابيا لصالح المهمشين والمناطق الهشة ويوفر الحقوق الثقافية كاملة في إطار الوحدة والانسجام هو الأنسب والأحكم .
3) إن إشكال السلطة والثروة إشكال مطروح، وينادي البعض بتوزيعهما وربما بمَأْسَسَة ذلك التوزيع، ويرتفع الصوت بمخاطر المحاصصة لما تكرسه من انقسامية ودعوات تقوم على العصب واللون لا الصلاحية والكفاءة.
أما نحن في (تواصل) فنرى في أطروحة استحضار تمثيل الجميع الحلَّ الأسلم .. ففي مجتمع كمجتمعنا ـ والتاريخ والحاضر شاهدان ـ يكون كل الخطر حين نقسم ونوزع على أساس الأعراق والألوان والفئات لما لذلك من تكريس للفرقة وإعلاء لعوامل التقاسم العصبي الذي يلغي شروط الأهلية .. وفي مجتمع كمجتمعنا عانى من الظلم والتهميش وغلبة البعض على البعض ولم تقدم الدولة فيه ما يحقق العدل و يوفر الاطمئنان لا بد من خطوات جدية وكبيرة تُشعر جميع المكونات أن الوطن وطنُها وأنها منه حيث ينبغي أن تكون وبالتالي استحضار التنوع الوطني واستحضار حقوق الجميع بما تقتضيه من عدل وإنصاف وتمييز إيجابي أحياناً دون أي تشريع أو تقنين لما يمثله ذلك من خطر على وحدة الوطن وتكريس الانقسام على أساس لم يختره الناس.
4) إن المسألة الثقافية وإشكال التعليم والإدارة يحتاج تحديدا .. فلا معنى لأمة لا يتأسس تعليمها على دينها ومرجعيتها ولغتها الرسمية ولغاتِها الوطنية المختلفة، ولا مستقبل لأمة لا يأخذ تعليمها بمقتضى العصر وضرورات التطور واستحقاقات التنمية ..
أما الإدارة فنرى الاتجاه إلى توافق وطني لحل إشكال لغتها يتأسس على اللغة الرسمية واللغات الوطنية المختلفة، ويراعي التنوع الوطني، ويأخذ بعين الاعتبار المكونين باللغتين العربية والفرنسية بما يضمن ولوج الجميع بلغة تكوينهم للإدارة و الترقي فيها، وتقلد مختلف الوظائف والمواقع .
وينبغي للموقف تجاه اللغات الوطنية الأخرى أي البولارية والسوننكية والولفية أن يتجاوز العموميات نحو أطروحة جدية تقضي بتطوير هذه اللغات وبذل الوسائل في سبيل ذلك و أن تأخذ هذه اللغات موقعها في التعليم لتكون مخرجات التعليم وطنية شاملة بامتياز من ناحية ومن ناحية أخرى لتأخذ طريقها نحو الترسيم.
الرؤية في أولوياتها
هناك ضرورة لترجمة هذه المنطلقات والمعالم في تصور عملي يقوم على أولويات محددة لعل من أهمها:
1- إحياء القيم والتعاليم الإسلامية القائمة على معيارية التقوى والمساواة بين الناس ونشر الخطاب الإسلامي الصحيح المحقق لهذه المعاني.
2- إحياء الآداب الإسلامية من أداء حقوق الأخوة والتكافل والإحسان والصفح وإفشاء السلام ومساعدة المحتاجين و المسارعة إلى الإصلاح بين الناس .
3- إطلاق مشروع المصالحة الوطنية القائم على الحوار الشامل والقاصد نتائج تجبر الماضي جبراً حقيقياً وتفتح الآفاق أمام إعادة بناء الدولة والعقد الوطني بناء صحيحاً.
4- إيجاد حل وطني نهائي لماضي حقوق الإنسان قائم على معرفة الحقيقة و حق الذاكرة وتحقيق العدالة والمصالحة و التسامح.
5- تمكين المبعدين من حقوقهم العقارية والمدنية والتعويض العادل لهم.
6- الدفع نحو سنّ قانون يجرم العنصرية ويعاقب عليها على غرار قانون تجريم الممارسات الاسترقاقية.
7- بلورة تصور شامل لإصلاح التعليم قائم على الثقافة الإسلامية الجامعة ومؤسس على اللغة الرسمية و اللغات الوطنية المختلفة ومنفتح على اللغات العالمية ومستوعب لمقتضيات التطور وخادم لمتطلبات التنمية .
8- اقتراح توسيع اللامركزية وإعطاء المجالس البلدية صلاحيات إضافية تجعلها قادرة أكثر على خدمة المناطق المختلفة حسب خصوصياتها الاجتماعية و التنموية، ومراجعة التقطيع الإداري على نحو أكثر عدالة و توازنا .
9- الدفع نحو التوازن بين أطراف الوطن و جهاته المختلفة حتى تنعم كل منطقة بخير بلدها من ناحية، وتفعيلا للخصوصيات الاقتصادية لكل ولاية في إطار التكامل الوطني من ناحية أخرى .
10- علاج المشكل العقاري المزمن على نحو يحقق العدل وينصف المستضعفين .
11- إصلاح المنظومة القضائية بما يضمن استيعاب الكفاءات من مختلف المكونات الوطنية والاجتماعية ويحقق العدل واستقلالية الحكم .
12- مواجهة صور الظلم الاجتماعي المختلفة من ممارسات فئوية واسترقاقية بإجراءات ملموسة على أرض الواقع.
13- دعوة العلماء والدعاة والأئمة إلى القيام بدورهم في نزع غطاء الشرعية عن الممارسات الاسترقاقية بكل مظاهرها.
14- العمل على ترسيخ ثقافة المواطنة وإدراجها في صلب المناهج التربوية.
15- تقديم نماذج حية من التكافل الاقتصادي والاندماج الاجتماعي وتوطيد العلاقات البيـنية عبر تعرّف الفئات الاجتماعية عن قرب على بعضها البعض، وتشجيع المصاهرة المتبادلة.
16- الدفع نحو توفير الخدمات للتجمعات السكانية الأكثر ضعفا و اعتماد مقاربة التمييز الإيجابي خصوصا في مجال التمويلات و المشاريع التنموية و في مجال التعليم والنموذجي منه خصوصا لصالح المجموعات الهشة.
17- اعتماد استراتيجية متوازنة تتبنى مظالم كل الفئات والمجموعات التي عانت الظلم والتهميش وتنادي بإنصافهم وتنأى عن كل الدعوات التفريقية التي تهدد لحمة المجتمع.
18- الدفع نحو جعل الإعلام معبرا عن كافة المكونات الوطنية في تعبيراتها الاجتماعية والثقافية المختلفة .
19- دعم وتعزيز و إصلاح التعليم الأصلي ليشمل و يتوسع لكافة المكونات والفئات والاهتمام بنشر الدعوة باعتبارها صمام أمان للوحدة الوطنية.
20- تطهير الثقافة المجتمعية من الموروث الشعبي السلبي الذي ينوء بعبارات العنصرية والكراهية والاسترقاق عبر إشاعة محاسن مجتمعاتنا فيما بيننا.
21- إحياء التراث الثقافي والاجتماعي لكل مكونات الوطن وإحضار رموز وتاريخ الجميع في المشهد الثقافي الوطني.
المكتب السياسي
25 صفر 1436 /الموافق 17 ديسمبر 2014