قلة في مجتمع الداعيات من يمكن حسبانهن في عداد القارئات المولعات بمجالسة الكتب والمهتمات بجديد المكتبة في مختلف المجالات حتى ولو كانت كتبَ التجميل والديكور التي يكتظ جانبها ـ عادة ـ في مكتبات الدول الأخرى برائدات يتتبعن آخر إصداراتها ويتسقطن أخبار الجديد منها في المجلات والصحف بحكم دخولها دخولا أوليا في الاهتمامات الطبيعية للمرأة.
قد يكون للظاهرة من الدواعي ما يخفف وطأتها على النفس وإن أثقل أثرها على مستقبل الدعوة التي تعتبر المرأة الداعية ركنا مكينا فيها، فطبيعة الحياة في بلدنا ما تزال تخلط بين عادات المجتمع البدوي القائمة على نمط مفتوح من العلاقات والأعراف (تتحمل المرأة عندنا كل ضرائبه من الجهد والوقت) وبين ضغط حياة المدينة التي تمتص رحيق الإنسان سحابة يومه وتلقيه وردة ذابلة بعدما يغيب الشفق، وتحمل الأخت الداعية مع الهمين السابقين هما آخر يضاعف تعبها، هو هم الدعوة إلى الله تبشيرا بها ونصرة للقائمين عليها ووقوفا مع قضاياها مما يصعب معه بقاء إضافي من الوقت أو الطاقة لتستطيع أن تستغله في برامج تثقيفية تنمي عقلها وتوسع مداركها وتفتح عينيها على ما يصطخب به العالم من أفكار وآراء.
لكن هل من الجائز كرامةً أن تركن الأخت الداعية إلى دواع ـ ولو كانت وجيهة ـ تجعلها في حِلٍّ من مسؤولية التقصير في تثقيف نفسها وتطوير أفكارها، لتأوي إلى اطمئنان ساذج أنها قد استنفدت طاقتها في الدعوة وملأت يومها بذكر الله وبمواجهة الباطل وبنصرة الحق، وأيم الله إنها لخطى تقربها إلى الجنة وترقى بها مدارج السالكين ما صحبها إخلاص لا شائبة به واستقامة لا تخذلها الخواتيم، ولكنها خطى سيزينها علم ثر ووعي منهجي وثقافة مستوعبة، لو حازتهم لكانت خطاها إلى الجنة أسرع وأثرها في الناس أقوى ومتعتها بما تكسبه من معارف أغنى وأقنى.
إن الدعوة الإسلامية لا يمكن أن تصارع جبروت الباطل بالعواطف الجياشة وحسب، فإن العاطفة يمكن أن تجعل الجماهير ترتفع معك لحظات ولكنها لن تدفعها إلى قناعة بمشروعك ولن تحولها إلى محامين عن فكرتك، بل لا بد من علم يقنع بالفكرة ويهدي السبيل، وإن مشتبهات الصراع الراهن لا يمكن أن يفصل فيها إلا الألمعي الذكي الذي تضلع من كل العلوم ورعى من كل نابتة، فجاءت فكرته ناضجة ورأيه سديدا موفقا، ولن يحوز المرء سداد الرأي ونضج الفكرة إلا إذا حنى ظهره طويلا على الكتب قديمها وحديثها يقلب صفحاتها ويدقق في جملها وكلماتها ملاحظا ما أضافه هذا الكاتب ومنتبها إلى مال إليه ذاك العالم ومستشكلا ما ذهب إليه ذلك المفكر ومستحسنا ما صاغه ذلك الأديب.
أتظنين أنك بعلم قليل وقراءة منعدمة واطلاع ناقص بما ينشر حواليك من أفكار وما يستجد من نظريات؛ أتظنين أنك بهذا الكم القليل من النضج يمكنك أن تصححي مفاهيم مجتمع صغير أحرى أن تغيري وجه العالم! أم تعتقدين أن قراءة تدوينة في الفيس بوك والتعليق على أخرى أو الإعجاب بها ومشاركتها، أتعتقدين ذلك كافيا لبناء نفسك ورسوخ قدمك في فقه الدعوة وفكر الأمة!
هل يمكن أن تظلي تقسمين المكتبة إلى كتب مملة (الفكر والتاريخ والفلسفة وعلوم السياسة والاقتصاد)وكتب غير مهمة (الروايات والقصص الأدبية والدواوين الشعرية والسير الذاتية)وتحرمين نفسك بذلك من كل المعارف والعلوم!
هل سمعت عن امرأة اسمها عائشة عبد الرحمن الملقبة بنت الشاطئ ، لقد كانت أول امرأة تحاضر في الأزهر الشريف، هل قرأت تفسيرها البياني للقرآن أم هل تنقلت بين صفحات كتابها على الجسر! وهل قرأت شيئا من كتابات الداعية زينب الغزالي رحمها الله! وهل سمعت عن كتاب مجالس ثعلب للأصمعي وكتاب الإسلام بين الشرق والغرب لعزت بيغوفتش إنه عالم من الفكر الرصين وهل تصفحت ديوان الصبابة لأبي حجلة التلمساني إنه غاية في المتعة والخفة وهل تتبعت مسار أمتك وأحداثها في البداية والنهاية لابن كثير وهل لاحظت ما كتبه زكي مبارك في ذكريات باريز وما ألهم من جمال في كتابه العشاق الثلاثة! بالتأكيد ستكونين قد قرأت مجلدات من تفسير الطبري وأنهيت قراءة روايات نجيب الكيلاني، ولديك قصاصات لحصاد قراءتك لموسوعة فقه الجهاد للقرضاوي فهي تناقش إشكالا يهمك كحاملة مشروع تغيير، أما موافقات الشاطبي ومدارج ابن القيم وفتاوى ابن تيمية فظني بك أنهم الكتب الأكثر مراجعة ومطالعة في مكتبتك.
إن القراءة غذاء العقل فلا تتركي عقلك بلا غذاء، والكتاب خير جليس فلا يليق بك ترك مجالسته، وليكن غرضك من القراءة ـ كما يقول الرافعي ـ اكتساب قريحة مستقلّة، وفكر واسع، وملكة تقوى على الابتكار، فكل كتاب يرمي إلى إحدى هذه الثلاث فاقرئيه.
يقول أحد الأدباء الغربيين"إن القراءة تصنع إنساناً كاملاً، والمشورة تصنع إنساناً مستعداً، والكتابة تصنع إنساناً دقيقا"، وهل هي إلا الكمال والاستعداد والدقة ثلاث صفات فاضلة؛ أنت ـ أختي الداعية ـ أحق العالمين بحيازتها وقد حزت العفاف والطهر وصرت شامةً بين الناس.
إن تعللكِ في إهمالك المطالعة بالانشغال إجابةٌ غير جادة، فهل المفكرون والعلماء والمبدعون إلا أبناء المجتمع الذي ترهقك عاداته وتقاليده ومعافسو الحياة التي تضغط عليك وتمتص رحيقك، ولكنهم نهضوا وقعدتِ وناضلوا واستسلمتِ وصمموا وهزمتِ، فانهضي بهمة صادقة يرفع الله عنك الإصر والأغلال التي تكبل إرادتك، فاحملي كتابك واقرئي باسم ربك الذي خلق تفتح لك أبواب الفهم وتفتح على يديك قلوب الخلق.
ملاحظة: اخترت أن يكون الضمير لكِ أيتها الأخت الداعية ولكن الخطاب يشمل أخاك الداعية أيضا، فهو أولى الناس بالنصح في شأن صحبة الكتاب.