هداية الله لا مرد لها، وتوفيقه لا حدود له، " يهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم"، وهدايته سبحانه وتعالى هداية مشيئة وإرادة، وتوفيق وعناية، فهو سبحانه الهادي من خلقه من شاء من عباده كيف شاء، على يد من يشاء...
وأما الإخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم، بأنه يهدي في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 52، 53] فإن تلك الهداية هداية إرشاد وتوجيه وإبلاغ،
إما أن تكون تلك الهداية أو هذه، لمن لا يتوقع حصولها له عادة، أو لم يقدم إليها سببا فيما يظهر، بل ربما لم تخطر له على بال، وبطريقة عجيبة غريبة، فذلك ما يثير الاستغراب، ويشير إلى أكثر من معنى ودلالة، وينبغي أن يستوقفنا لكي نستفيد من إيحاءاته ودلالاته، ورموزه وأبعاده ...
فالعنوان يشير إلى قصة واقعية حدثت لفتاة "أمريكية" كانت موظفة في مطار إحدى الولايات الآمريكية، وشاء الله أن أحد الدعاة إلى الله كان مسافرا إلى تلك الولاية، ليقيم بها محاضرات هنالك ويحضر ملتقيات دعوية، وينزل هذا الداعية في المطار، ويتقدم إلى إحدى البوابات، ليسجل دخوله إلى الولايات المتحدة الأمريكية، كغيرة من القادمين، وعندما وصل البوابة وجاء عليه الدور أخرج جواز سفره من جيبه، وأراد أن يقدمه إلى الفتاة التي على تلك البوابة بشماله، فانتبه وجعل الجواز في يمينه وناولها إياه باليمين، والفتاة ترقب المشهد بانتباه، فأثار الموضوع انتباهها فسألته، ما الفرق بين هذه وتلك، حتى تأخذه من تلك وتناولني إياه بهذه ؟ فقال لها ديننا يسمي هذه اليمين وتلك الشمال، ويجعل من سنة رسولنا صلى الله عليه وسلم الأخذ والعطاء باليمين...
فقالت له في استغراب: وما دينك ؟ قال لها ديني الإسلام، فقالت وما رسولك ؟ فقال لها محمد صلى الله عليه وسلم، فقالت له وهل لي أن أعرف عن هذا الدين ونبيه ؟
فقال لها: نعم ودلها على بعض مراكز الدعوة في أمريكا، فترددت عليها في البحث عن هذا الدين والقراءة عنه، فكان ذلك سببا في هدايتها واعتناقها الإسلام، فأصبحت توصي في لقاءاتها قائلة "أيها المسلمون إياكم أن تتهاونوا بشيء من سنة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم"
فما أغرب قصة إسلام هذه الفتاة وأعجبها، وسنقف مع هذه القصة عبر المحطات التالية:
أولا: أن عناية الله إذا أرادت للإنسان الهداية، فسيجعل الله لذلك أسبابا وطرقا عجيبة، ليس من الضرورة أن تخطر على بال أحد، ومن لم تتعلق به تلك العناية، ولم يرد الله أن يهديه {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17] .
ثانيا: أن على الدعاة إلى الله أن يقتدوا بهذا الداعية الذي بدا منه حرص شديد على تطبيق السنة، في كل أوقاته، ومختلف نواحي حياته، فكان من بركة الحرص على السنة، أن هدى الله به هذه الفتاة الآمريكية " ولئن يَهْدِىَ الله بك رجلا واحدا خير لك من أن تكون لك حُمْرُ النَّعَمِ" حديث رواه البخاري
وكم سنة أحدثت في حياة المسلمين فتحا عظيما وتحولا كبيرا، وقد كان الصحابة والسلف الصالح أصحاب حساسية بالغة تجاه السنة، واهتمام بمختلف تفاصيلها، إلى درجة يصعب إدراكها.
ثالثا: أن هذا الداعية الذي تحدثت عنه القصة، كان له اعتزاز قوي بدينه وانتساب إليه وإعجاب به، جعله يرد بسرعة ووضوح إجابة قائلا "ديني الإسلام" فلم يداهن أو يتردد أو يرد ذلك إلى عادات قومه وأعراف بلده، على غرار ما يفعله البعض، والاعتزاز بالإسلام اليوم أصبح مطلبا ملحا، وسمة ينبغي الاهتمام بها أكثر من ذي قبل، ذلك أن تميز المسلم في سلوكياته وأخلاقه مطلب دعانا إليه الإسلام كثيرا واهتم به طويلا، في سياقات مختلفة من قبيل قوله تعالى في القرآن العظيم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59] وفي أحاديث من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم" خالفوا اليهود والنصارى.." أخرجه ابن حبان
كما حذر من ذبول الشخصية، وذوبان الهوية والسير في ركاب الغير، دون تمعن وروية، فقال: " لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن أساءوا أسأنا ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسنوا أن تحسنوا وإن أساءوا أن لا تظلموا" أخرجه الترمذي
رابعا: أن الدعوة إلى الله لها صور مختلفة وأوجه متنوعة، فمن ضمنها الدعوة القولية، والتي تعتبر ذات أهمية عظيمة في كونها تسبق غيرها، وتحمل معنى الإبلاغ والإعلام، إلى كونها وسيلة التعلم والتفقة في دين الله...
إلا أنها تبقى ناقصة وغير ذات فعالية، ما لم تصاحبها دعوة بالسلوك العملي، والقدوة الحسنة، حتى قيل في شأنها " فعل رجل واحد في ألف رجل خير من قول ألف رجل لرجل" بمعنى أن التأثير الذي تحدثه الدعوة العملية، لرجل واحد في فئام من الناس، يصل عددهم الألف أبلغ تأثيرا، من مخاطبة أو دعوة ألف رجل لرجل واحد
والدعوة بالسلوك العملي هي خلاصة تطبيقات السنة النبوية، مع ما يصاحبها من مشاعر حب واتجاهات رغبة وإعجاب، لمعطيات الإسلام ومقتضياته، تجعل صاحبها إن نطق فعن علم ودراية واتباع، وإن تحرك فعلى هدى من كتاب ربه وسنة نبيه، وبصيرة من أمره، وإن فكر ففي ملكوت الله، وما يشير إليه من عظمة الخالق، وإن أحب فلله وفي الله، وإن أبعض فلأعداء الله المعرضين عن منهجه المناوئين لأوليائه...
ويوم ينتشر الدعاة إلى الله، الذين هم على شاكلة هذا الداعية الذي تحدثت عنه القصة، وأخبرت عنه الواقعة، بالشروط والمواصفات التي أشرنا إلى جانب يسير منها، فإن قطار الدعوة سيعبر مسافات الانحراف، ويتجاوز العقبات والمعوقات بيسر وسهولة وأمان واطمئنان { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [الروم: 4، 5، 6]
إسلام ويب