أشاهد وأسمع وأقرأ تصريحات وأفعالاً لبعض “الجهاديين”، أقل ما يمكن أن أعلّق عليها بقول أنها أبعد ما تكون عن النضوج، مع الأسف، لا تزال هناك فجوة بين هؤلاء وبين الواقع؛ بين ما يقرأون ربما في كتب السيَر، و بين ما هم عليه فعلاً، ولو أنهم فقهوا سيرة الرسول صلى الله عليه و سلّم فقهاً رشيداً لما كانوا على ما هم عليه الآن.
أحد “أمراء” هؤلاء – وهو محاصر في إحدى القرى الشامية – صرّح منذ فترة ليست بالبعيدة أنه هو وجماعته المسلحة سوف “يزلزلون عروش أوباما وبوتين”! آخر يصرح بأنه وعصابته سيظلون يقاتلون العالم بأسره حتى تحقيق أهدافهم..
لا أدري بأي منطق يتكلم هؤلاء ولكنني أعلم يقيناً أنهم حالمون يجب إيقاظهم والأخذ على أيديهم ومنعهم من إلحاق المزيد من الأذى بالمسلمين بسبب جهلهم وانفصالهم عن الواقع.
على الحركات الإسلامية – السلمية منها والجهادية – أن تحدد هدفها الواضح العقلاني وأن تُبعد الجهلة وأنصاف المتعلمين والمتشنجين عن اتخاذ القرارات بإسمها، بعض أئمة المساجد في خطبة الجمعة يدعو بهلاك اليهود والنصارى، وكأن هذا مطلب شرعي! ناهيك عن دعائهم على من خالفهم من أهل القبلة أساساً..
بعض النشطاء الإسلاميين يرددون دعاءً فضفاضاً: “اللهم ائذن لشريعتك أن تحكم الأرض وأن تسود”، فإذا كانوا يقصدون بــ” الأرض” الكرة الأرضية – وهذا هو الظاهر – فهم أيضاً حالمون مصادمون للشرع والعقل والتاريخ والواقع، فلو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة، ولو شاء الله لآمن كل من في الأرض جميعاً، خصوصاً في زمن خير القرون – زمن الرسول والصحابة -، ولكن سُنّة الله ماضية ومشيئته غالبة، وسيظل الإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، والخير والشر، والعدل والظلم، والاستقامة والفساد إلى أن تقوم الساعة؛ وسيظل للإنسان حريته في اختيار دينه ومعتقداته وأسلوب حياته إلى أن يلقى الله فيحاسبه.
حتى على مستوى الطلاب الملتزمين الذين يسافرون إلى الدول الغربية للدراسة، تجد أنهم أحياناً قد تتيه بوصلتهم فيصبح اهتمامهم بـ”أن ترفرف راية الإسلام فوق أنحاء الأرض” يفوق اهتمامهم بتحصيلهم العلمي، والذي يُفترض أن يكون هدفهم المرحلي الأساسي، وهو في الحقيقة ما سيرفع شأنهم ويساهم في الدعوة الغير مباشرة إلى دينهم.
إن الأمة الإسلامية مطالَبة أن تحكم بما أنزل الله، لا بقوانين الشرق والغرب. ومن الطبيعي أن تطالب الحركات الإسلامية – ونحن معهم – بتحكيم الشريعة والعمل على إقامة دولة الإسلام الراشدة، والتي يسعى أعداؤنا إلى تشويهها في مخيلة الشعوب الإسلامية وضميرها عبر إنتاج دويلات دجّالة مسخة تدّعي أنها خلافة على منهاج النبوّة، فتكون قبلة الإسلاميين الرومانسيين الحالمين الساذجين، المنفصلين عن الواقع -مع الأسف – و محرقة لهم.
نعم، نريد خلافة راشدة حقيقية، على أن نحكم بالشريعة في ضوء اجتهاد جديد يراعي تغيرات الزمان والمكان والإنسان، لا أن ننفض الغبار عن الكتب القديمة ونحكم بإجتهادات أصحابها التي كانت لذلكم الزمان صالحة، ولم تعد كذلك لزماننا. فالشريعة التي أساسها القرآن الكريم و السنّة الصحيحة صالحة لكل زمان ومكان، ولكن في ضوء اجتهاد المجتهدين الذين يجمعون بين الأصالة والمعاصرة، فيفقهون واقعهم وينتفعون بكل قديم نافع ويرحّبون بكل جديد صالح، ويُخرجون البلاد والعباد من حالة الفصام النكد وأحلام اليقظة ومنطق اللا منطق الذي تتخبط فيه الأمة.
إن هذا الواقع يُذكرني بالرواية الشهيرة الرائعة “دون كيشوت دي لامانشا” للكاتب الإسباني “ميغيل دي سيرفانتس”، والتي كتبها منذ أكثر من 400 سنة. وتتمحور أحداث الرواية حول شخصية رجل خمسيني اسمه “ألونسو كيخانو” يعيش في أواخر القرن السادس عشر في منطقة لامانشا الإسبانية؛ وهو بورجوازي أعزب، نحيف وطويل، مغامر حالم، انفصل عن الواقع من كثرة هوَسه بالقراءة في كتب الفروسية والبطولة والأعمال الخارقة حتى تخيّل أنه فارس نبيل عليه أن يتجول ليقاتل الشر، وينشر العدل، وينصر الضعفاء، ويدافع عن المظلومين.
متخذاً لنفسه لقب “دون كيشوت”، إنطلق هذا الفارس الواهم على صهوة حصانه الهزيل “روسينانت” يحمل رمحاً و درعاً، بعد أن أقنع جاره الساذج “سانشو بانزا” بمشروعه، و وَعَده بالعزّ والغنى، وبأن يجعله حاكماً على إحدى الجُزر. فقبل “سانشو” بأن يصبح خادماً تابعاً للفارس المتجول “كيشوت” وحاملاً لشعاره، وانطلق وراء سيده يركب حماراً أرقطاً.
خاض “دون كيشوت” عدة معارك وهمية مجنونة ضد من تخيّلهم أشراراً، وخسر هذه المعارك كلها. كان أهمها وأشهرها على الإطلاق معركته ضد طواحين الهواء، التي تخيّلها عمالقة شريرين، وظنّ أن الرب سيكون شاكراً له عند خوضه لهذه المعركة الغير متكافئة، لأنه سيقضي على بذور الشر في العالم. فكان أن علقتْ حربته بذراع طاحونة، فرفعته ودارت به و رمته أرضاً هو وحصانه.
الطريف أن تابعه المخلص “سانشو” كان عليه أن يتولى مهمة التصدي للناس العاديين المدنيين لوحده، وأن يتحمل أذاهم و لَكَماتهم لأن الفارس “كيشوت” – بحسب التقاليد – لا ينبغي أن يحارب إلا الفرسان النبلاء أمثاله.
قبيل وفاته، وبعد خسارته المعتادة لإحدى معاركه، عاد بطل الرواية إلى رشده، وتخلى عن لقبه وعن تخيلاته وأوهامه الجنونية، واعتذر عن حماقاته، في حين كان خادمه “سانشو” يشجعه على المُضي قدماً نحو المزيد من المغامرات.
هذه الرواية تعبّر عن أزمة الفرد الذي لا يتكيف مع التغيير في زمن التحولات، فيعيش في عصره، في حين أن عقله ينتمي إلى عصر آخر. ونحن في عالم اليوم، ما زلنا نختلق المعارك الوهمية غير الضرورية، ونحارب طواحين الهواء بشكل أو بآخر.. “دون كيشوت” ما زال يعيش بيننا بأحلامه و أوهامه.. نشبهه في مأزق الأحلام الذي يحبطنا باستمرار، ولا ينفك يدفعنا كي نحقق أمراً لا قدرة لنا عليه و ليس ضرورياً أساساً.. لقد كان “دون كيشوت” منسجماً مع نفسه ومتناقضاً مع العالم من حوله، ولم يكن يبحث عن حل وسط ولا كان بإمكانه أن يستفيد من تجاربه المريرة مع الحياة.. وبالرغم من نواياه الطيبة، فإنه قلما كان ينجح في درء الظلم عن المظلومين، لأن الطريقة التي يستخدمها في الدفاع عنهم ينقصها العقل والتعقل والفهم السليم للواقع.. هو في المحصلة الأخيرة أحمق طيب، يقتله البشر ويبكون عليه!
صدق القائل: بالأمس كنت ذكياً، فأردت تغيير العالم. أمّا اليوم فأنا حكيم، لذلك أريد أن أغيّر نفسي!
أيها الإسلاميون الـ “دون كيشوتيون”: عودوا إلى رشدكم، واستفيقوا من غفلتكم، واستدركوا أخطاءكم، وقوموا إلى نهضتكم، يرحمكم الله!
بقلم د : طارق هشام الرافعى