يقدم كتاب الدولة المستحيلة للباحث وائل حلاق إشكالية عدم إمكان تحقق المشروع السياسي الإسلامي في واقع عالمي تهيمن عليه روح الحداثة الغربية التي تقوم على أسس لا تلائم مشروع الدولة الإسلامية ـ حسب حلاق ـ، الذي يقرر منذ السطر الأول أن “مفهوم الدولة الإسلامية مستحيل التحقق وينطوي على تناقض داخلي، وذلك بحسب أي تعريف سائد لما تمثله الدولة الحديثة”.
للتدليل على هذا الحكم ينطلق حلاق مما سماه “النطاق المركزي”، وهو عبارة عن منظومة قيم ومفاهيم كلية تترك طابعها المميز على كل الجزئيات المنبثقة عنها أو الدائرة في فلكها، وهي حسب ما تقوله فصول الكتاب غير قابلة للاختراق، بل لا بد من إزالتها وإحلال “نطاق مركزي” آخر مكانها.
النطاق المركزي للحداثة مختلف جذريا وتفريعيا عن النطاق المركزي للإسلام، لذلك لا يمكن أن يعيش أي منهما في كنف الآخر إلا إذا تخلى عن جذوره ومميزاته،”إفريقيا وآسيا تكافحان من أجل اللحاق بالغرب وفي سبيل ذلك تستمران في التخلي عن مزايا البناء على تقاليدهما وتجاربهما التاريخية التي شكلت هويتهما”، يمكن أن نسمي هذه النظرية ذوبان الحضارات، بدل صدامها الذي بشر به هنتجتون أو برنارد لويس عند التحقيق.
لا مراء في القطيعة الكاملة بين المشروعين الحداثي الغربي والإسلامي، ويبدأ ذلك من نظرة كل منهما للطبيعة والكون، فالحداثة الغربية ترى أن الإنسان يمتلك الكون وبالتالي تتحدث عن قهر الطبيعة، بينما ترى النظرة الإسلامية أن الكون مسخر للإنسان فتتحدث عن الانتفاع به، في الدولة الحديثة أيضا هناك فصل كلي بين الأخلاقي والقانوني، وفي الدولة الإسلامية النموذج الأخلاق والقانون وقيمهما يشكلون ذات واحدة.
يحاول الكاتب أن يضعنا في أزمة يأس حين يتحدث عن استحالة الدولة الإسلامية وعن المأزق الأخلاقي الذي ينذر بنهاية مشروع الحداثة الغربي، أصبحت البشرية ـ حسب أطروحة حلاق ـ على أعتاب الانتحار الجماعي، فالحداثة بدأت تنتج آليات الدمار الشامل؛ الفقر والجوع والمرض، في حين أن الإسلام كبديل ليس قابلا للتجقق. تنطوي الفكرة هنا على بعض التناقض التأويلي.
إنه هنا يتطرف في الحكم على الإنسان ـ وليس الحداثة ـ، حين يجرده من كل قيمة أخلاقية تصلح للبناء عليها، وحين يسلبه الإرادة والقدرة على الإصلاح، النظرية الإسلامية تناقض هذه الفكرة جذريا، كيف ذلك؟
الإسلام في جوهره رسالة واقعية منصفة، يفضل التأسيس على الموجود حتى ولو كان ضئيلا بدل مسح الطاولة، “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، لذلك لم يمنع “النطاق المركزي” ـ على لغة حلاق ـ للجاهلية الإسلام من التأسيس على بقايا أطلال القيم المشبعة بالأنا والأثرة وحب الذات، سعى لهدم الجاهلية لكنه اتخذ بعض قيمها الصحيحة أدوات مساعدة ليهدمها بها.
صحيح أن الحداثة الغربية مبنية فلسفيا ومؤسساتيا ومتوغلة نفسيا واجتماعيا بطريقة يصعب معها الفصل بين أدواتها وقيمها، ولكنه ليس مستحيلا في النهاية، كما أن الدولة الإسلامية ليست مستحيلة.
لقد قدمت الدولة الإسلامية تجربتها العملية عبر 13 قرنا، بحسناتها وهناتها، وبغض النظر عن التفاوت بين العصور والدول الإسلامية التي قامت إلا أن كلا منها كانت مقاربة لتجسيد التصور السياسي الإسلامي في الواقع، إن الفقه السياسي الإسلامي ينظر للدولة كممارسة بشرية، لا كتصور مثالي غير قابل للتحقق.
عند التمعن سيظهر لنا أن الدولة الإسلامية التي يحكم حلاق باستحالتها ليست تلك التي يتصورها الفقه السياسي الإسلامي نظريا، كما أنها أيضا ليست تلك التي ينادي بها حملة المشروع الإسلامي المعاصر واقعيا، ومن هنا تأتي المشكلة الأساس للكتاب، الذي يتحدث عن دولة إسلامية “فاضلة”، بالمعنى الافلاطوني، أي دولة مثالية مواطنوها ملائكة أو أنبياء لا دولة مدنية يديرها بشر.
كما إنه عند التمعن في المسار الراهن للعالم الإسلامي ندرك ببساطة أن الدولة الإسلامية ـ كما نفهمها وكما ينظر لها الفقه السياسي الإسلامي ـ قد قطعت أشواطا مهمة في طريق العودة، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أن مسار الحركات الإسلامية وطرحها وتقنيات حركتها في الواقع مسلمة لا تقبل النقد، إن الدولة الإسلامية المنشودة تأتي من تغيير اجتماعي عميق مخرجاته تغيير سياسي ونمو اقتصادي إلخ، فهي نتاج حراك اجتماعي، وليس بالضرورة نتائج اختيارات فكرية أو سياسية مرحلية.
من هذه الزاوية فإن الكتاب يعرض أزمة من نوع آخر، وهي أزمة النخب ونظرتها للإسلام في أفق علم الأديان المقارنة، وفي الحقيقة إن الإسلام ليس دينا بالمفهوم الغربي للدين، إنه الإسلام فقط. لذلك كان بيجوفيتش دقيقا حين سماه الطريق الثالث: الدين والمادية والإسلام.
في الختام الكتاب مقاربة جيدة، وإن كان لم يستطع حسب وجهة نظري التدليل على المسلمة التي انطلق منها وهي استحالة الدولة الإسلامية، وهو كما قال عنه عزمي بشارة في تقديمه له” دراسة مقارنة متعددة الأوجه، فهو ينقد منتجات الحداثة في ضوء أن الحداثة أحد مخرجات عصر التنوير، وينتقد الحكم الإسلامي في ضوء أنه أحدث قطيعة مع النموذج الأول، فتكون الخلاصة أفكار عصر التنوير رجعية وممارسات المسلمين الرجعية لا تنتمي للإسلام النموذجي.