مواعظ عمر بن عبد العزيز.. مصلح دولة الخلافة

سبت, 14/03/2015 - 22:00

بقلم : الشيخ أحمد حسنين

الوعظ والتذكير بالله من أهم أساليب الدعاة في تنبيه الغافلين وموعظة المؤمنين، قال تعالى (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)) (الذاريات)، ولكي ينجح الواعظ في مهمته يجب عليه أن يخلص لله في قوله ثم يحسن اختبارات الكلمات والحكايات والمناسبات وأحوال المستمع، وذلك أن التذكير والوعظ ليس الغرض منه إقامة الحجة على الناس بل الأخذ بأيديهم إلى الطريق المستقيم.

ويبين لنا إمام الواعظين ابن الجوزي- رحمه الله- أحوال المستمعين للموعظة فيقول: "قد يعرض عند سماع المواعظ للسامع يقظة، فإذا انفصل عن مجلس الذكر عادت القسوة والغفلة: فتدبرت السبب في ذلك فعرفتُه ثم رأيت الناس يتفاوتون في ذلك، فالحالة العامة أن القلب لا يكون على صفة واحدة من اليقظة عند سماع الموعظة وبعدها لسببين:

أحدهما: أن المواعظ كالسياط، والسياط لا تؤلم بعد انقضائها إيلامها وقت وقوعها.

والثاني: أن حالة سماع المواعظ يكون الإنسان فيها مُزاح العلة، قد تخلى بجسمه وفكره عن أسباب الدنيا، وأنصت بحضور قلبه، فإذا عاد إلى الشواغل اجتذبته بآفاتها، وكيف يصح أن يكون كما كان، وهذه حالة تعم الخلق إلا أن أرباب اليقظة يتفاوتون في بقاء الأثر

فمنهم من يعزم بلا تردد، ويمضي من غير التفات، فلو توقَّف بهم ركب الطبع لضجُّوا، كما قال حنظلة عن نفسه: نافق حنظلة(1)

ومنهم أقوام يميل بهم الطبع إلى الغفلة أحيانًا، ويدعوهم ما تقدم من المواعظ إلى العمل أحيانًا، فهم كالسنبلة تميلها الرياح (2)

وأقوام لا يؤثر فيهم إلا بمقدار سماعه، كماء دحرجته على صفوان (3)، (4)

وواعظنا هو الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، الذي إذا ذكر اسمه تبادر إلى الذهن شخصية الخليفة العادل الذي استطاع في مدة وجيزة أن يضع الدولة الإسلامية المترامية الأطراف على المحجة البيضاء، وأن يقضى على الظلم وما أعظم الموعظة إذا كانت من حاكم عادل، وعالم فقيه، وزاهد ورع ولنستمع إلى أقوال العلماء فيه:

قال شيخه عبيد الله بن عبد الله- أحد فقهاء المدينة السبعة "كانت العلماء عند عمر بن عبد العزيز تلاميذه"، وقال ميمون بن مهران: أتينا عمر بن عبد العزيز فظننا أنه يحتاج إلينا، وإذا نحن عنده تلامذة".

وقال مجاهد: أتينا عمر نعلمه، فما برحنا حتى تعلمنا منه.

وقال ميمون بن مهران: كان عمر بن عبد العزيز يعلم العلماء.

قال النووي: "أجمعوا على جلالته وفضله، ووفور علمه وصلاحه، وزهده وورعه، وعدله وشفقته على المسلمين، وحسن سيرته فيهم، وبذل وسعه في الاجتهاد في طاعة الله، وحرصه على اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بسنته، وسنة الخلفاء الراشدين.

وقال الذهبي: "الإمام الحافظ، العلامة المجتهد، الزاهد العابد السيد، أمير المؤمنين حقًّا، وقال أيضًا "وكان إمامًا فقيهًا، عارفًا بالسنن، كبير الشأن، ثبتًا حجة حافظًا، قانتًا لله أواها منيبًا يُعد في حسن السيرة والقيام بالقسط مع حدة لأمه عمر، وفي الزهد مع الحسن البصري، وفي العلم مع الزهري". وقال الإمام أحمد: إذا رأيت الرجل يحب عمر بن عبد العزيز ويذكر محاسنه وينشرها فاعلم أن من وراء ذلك خيرًا إن شاء الله".

توفي رحمه الله عام 101هـ (5)

محاور الوعظ عند عمر

1- التزام الكتاب والسنة: وكان يلح على هذا الأمر في كل مناسبة، في أقواله وخطبه ووسائله، ومن رسالته إلى أحد عماله يقول: "فإني أوصيك بتقوى الله، واتباع سنة رسوله، والاقتصاد في أمره، وترك ما أحدث المحدثون بعده".

2- الخوف من الموت والاستعداد له: وهذه قضية أخذت مساحة واسعة من أقواله ووصاياه، بل وشغلت باله، واستأثرت بهمّة، فقد وضع أمر الموت بين عينيه دائمًا وفي رسالة لبعض عماله قال: "إنك إذا استشعرت ذكر الموت في ليلك أو نهارك، بغض إليك كل فانٍ، وحبب إليك كل باقٍ" وعندما يعزى بميت يقول: "العجب لميت يكتب إلى ميت يعزيه عن ميت....".

3- الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر: ورسائل وخطبة مليئة بذلك.

4- إقامة العدل ومنع الظلم: وكان يأمر بالعدل، ويكره الظلم ويحاربه، ويعلن ذلك.

5- الحكمة من سياسة الأمور: فقد أقام العدل بالحنكة والسياسة والأناة وترتيب الأولويات، فقد بدأ بحساب نفسه ثم أهل بيته الأدنين، ثم فتح الباب إلى كل صاحب مظلمة... وقد شرح سياسته لابنه عبد الملك فقال: "إنما أروض الناس رياضة الصعب، إني لأريد أن أحيي الأمور من العدل، فأخر ذلك حتى أخرج معه طمعًا من طمع الدنيا، فينفروا لهذه ويسكنوا هذه...".

6- تصحيح المفاهيم: وما أكثرها في أقواله وأفعاله.(6)

من روائع أقواله في الوعظ

تنبيه:

يزيد كلمات واعظنا مهابة أنها صادرة من خليفة عادل، وعالم فقيه، وزاهد ورع، ومصلح دولة الخلافة.

- الصحية: قال عمر بن عبد العزيز: "لا تصحب من الأصحاب من خطرك عنده على قدر قضاء حاجته، فإذا انقضت حاجته انقطعت أسباب مودته، وأصحب من الأصحاب ذا العلا في الخير، والإفاءة في الحق، يعينك على نفسك، ويكفيك مؤنته".

- كرامة المسلم: استعمل عمر جعونة بن الحارث على ملطية، فإذا فأصاب غنمًا، ووفد ابنه إلى عمر فلما دخل عليه وأخبره الخبر، قال له عمر: هل أصيب من المسلمين أحد؟ قال: لا إلا رويجل(7) فغضب عمر وقال: رويجل !! رويجل !! مرتين تجيئون بالشاة والبقر ويصاب رجل من المسلمين؟ لا تلي لي وأبوك عملاً ما كنت حيًّا".

- صلاح الآخرة: قال عمر: أصلحوا آخرتكم تصلح لكم دنياكم، وأصلحوا سرائركم تصلح لكم علانيتكم، والله إن عبدًا ليس بينه وبين آدم أب حي لمغرق له في الموت.

- القليل يكفي: قال مسلمة: دخلت على عمر بعد الفجر في بيت كان يخلو فيه، فلا يدخل عليه أحد فجاءت جارية بطبق عليه تمر صبحاني، وكان يعجبه التمر، فرفع بكفّه منه قل: يا مسلمة، أترى لو أن رجلاً أكل هذا، ثم شرب عليه الماء أكان يجزيه إلى الليل؟ قلت: لا أدري فرفع أكثر منه، قال: فهذا؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، كان كافيه دون هذا، حتى ما يبالي أن لا يذوق طعامًا غيره قال: فعلام ندخل النار؟ قال مسلمة: فما وقعت مني موعظة ما وقعت هذه".

والمعنى أنه إذا كان هذا التمر القليل يكفي المرء ليوم كامل، وهو ذو قيمة زهيدة فلماذا يختلف الناس ويقتل بعضهم بعضًا من أجل الدنيا.

- تضرع: قال رحمه الله: اللهم إن لم أكن أهلاً أن أبلُغَ رحمتك، فإن رحمتك أهل أن تبلغني، رحمتك وسعت كل شيء، وأنا شيء، فلتسعني رحمتك يا أرحم الراحمين.

- ميراث النبي: قال محمد بن مهاجر: كان عند عمر بن عبد العزيز سرير النبي صلي الله عليه وسلم وعصاه، وقدح، وجفنة، ووسادة حشوها ليف، وقطيفة ورداء.

فكان إذا دخل عليه النفر من قريش قال: هذا ميراث من أكرمكم الله به، ونصركم به، وأعزكم به، وفعل وفعل.

- فتنة القول: قال ميمون بن مهران: إن لعند عمر بن عبد العزيز، إذ فتح له منطق حسن، حتى رقَّ له أصحابه، ففطن لرجل منهم وهو يحذف دمعته، فقطع منطقة فقلت له: امضي في منطقك، فإني لأرجو أن يمن الله به على من سمعه، فانتهى إليه بيده وقال: إليك عني، فإن في القول فتنة، والفعال أولى بالمرء من القول".

- أحمق الناس: قال عمر لجلسائه: أخبروني من أحمق الناس؟ قالوا: رجل باع آخرته بدنياه، فقال لهم عمر: إلا أنبئكم بأحمق منه؟ قالوا: بلي، قال: رجل باع آخرته بدنيا غيره.

- شتم الظالم: قال رباح بن عبيدة: كنت قاعدًا عند عمر، فذكر الحجاج، فشتمته، ووقعت فيه فقال عمر: مهلاً يا رباح، إنه بلغني أن الرجل ليظلم بالمظلمة، فلا يزال المظلومُ يشتم الظالم ويتنقصه حتى يستوفي حقه، فيكون للظالم عليه فضل".

قلت: ما أروعها من موعظة.

- العمل بغير علم: من عمل على غير علم، كان ما يفسد أكثر مما يصلح، ومن لم يعدَّ كلامه من عمله كثرت ذنوبه، والرضا قليل، ومعول المؤمن الصبر

- درء الحدود: قال عمر: ادرءوا الحدود ما استطعتم في كل شبهة، فإن الوالي أن أخطأ في العفو خير من أن يتعدي في الظلم والعقوبة".

- سبيل الظلمة: قال عمر: إنما هلك من كان قبلنا: بحبسهم الحق حتى يشتري منهم، وبسطهم الظلم حتى يفتدي منهم".

- اختلاف بين الصحابة: ذكر اختلاف الصحابة عند عمر فقال: "أمر أخرج الله أيديكم منه، ما تعملون ألسنتكم فيه"، وسئل عن الجمل وصفين فقال: تلك دماء كف الله يدي عنها وأنا أكره أن أغمس لساني فيها".

- الصمت والكلام: قال رجل لعمر بن عبد العزيز: متى أتكلم؟ قال: إذا اشتهيت الصمت، قال: ومتى أصمت؟ قال: إذا اشتهيت الكلام.

- الزهد: قال عمر: إنما الزهد في الحلال، وأما الحرام فنار تسعر.

- الحلم والعفو: قال عمر: ما قرن شيء إلى شيء أفضل من حلم إلى علم، ومن عفو إلى قدرة.

- التعلم: قال عمر: إن استطعت فكن عالمًا، فإن لم تستطع فكن متعلمًا، فإن لم تستطع فأحبهم، فإن لم تستطع فلا تبغضهم.

- تذكير: كتب عمر إلى عدي بن أرطأة: أما بعد: فإني أذكرك ليلة تمخَّض بالساعة، فصباحها القيامة، يا لها من ليلة، ويا له من صباح كان على الكافرين عسيرًا.

- أموال المسلمين: كتب عمر إلى أبي بكر بن حزم: "أدق قلمك، وقارب بين أسطرك، واجمع حوائجك، فإني أكره أن أخرج من أموال المسلمين مالاً ينتفعون به، والسلام".

- الإقبال على الإسلام: كتب عدى بن أرطأة إلى عمر بن عبد العزيز: "أما بعد: فإن الناس قد كثروا في الإسلام وخفت أن يقل الخراج فكتب إليه عمر: فهمت كتابك، ووالله لوددت أن الناس كلهم أسلموا حتى تكون أنا وأنت حراثين نأكل من كسب أيدينا".

- ترميم مدينة: كتب بعض عمال عمر: "أما بعد: فإن مدينتنا قد خربت، فإن رأي أمير المؤمنين أن يقطع لها مالاً يرمُّها به فعل، فكتب إليه عمر: أما بعد فقد فهمت كتابك، وما ذكرت أن مدينتكم قد خربت، فإذا قرأت كتابي هذا فحصنها بالعدل، وذق طرقها من الظلم، فإنه مرمتها والسلام".

- حرمة الدماء: كتب صالح بن عبد الرحمن مصاحب له وكان عمر ولا هما شيئًا من أمر العراق فكتبا إليه يعرضان له: أن الناس لا يصلحهم إلا السيف.

- فكتب إليهما: خبيثين من الخبث، رديئين من الردى، تعرضان لي بدماء المسلمين، ما أحد من الناس إلا ودماؤكما أهون علي من دمه".

- رسالة بشأن الصلاة والخطبة: كتب عمر إلى واليه على دمشق: "إذا صليت بهم فأسمعهم قراءتك، وإذا خطبتهم فأفهمهم موعظتك".

- قتل من سب النبي صلي الله عليه وسلم: كتب عبد الحميد إلى عمر: إنه رفع إلي رجل يسبُّك، فهممت أن أضرب عنقه، فحبسته، وكتبت إليك لأستطلع في ذلك رأيك؟ فكتب إليه: "أما إنك لو قتلته لأقدتك به، إنه لا يقتل أحد بسبب أحد إلا من سب النبي صلي الله عليه وسلم، فأسببه إن شئت أو خلَّ سبيله".

- الورع: كتب عمر إلى الجراح بن عبد الله الحكمي: أن استطعت أن تدع مما أحل الله لك ما يكون حاجزًا بينك وبين ما حرم الله عليك فأفعل، فإن من استوعب الحلال كله تاقت نفسه إلى الحرام".

- معاملة المخالف: دخل ناس من الحرورية على عمر بن عبد العزيز، فذاكروه شيئًا فأشار بعض جلسائه أن يرعبهم ويتغير عليهم فلم يزل عمر يرفق بهم حتى أخذ عليهم، ورضوا منه أن يرزقهم ويكسوهم ما بقي، فخرجوا على ذلك.

فلما خرجوا، ضرب عمر ركبة رجل يليه من أصحابه وقال: يا فلان إذا قدرت على دواء تشفي به صاحبك دون الكي فلا تكوينَّه أبدًا".

- رسالة في الموعظة: كتب عمر إلى القرظي: "أما بعد: فقد بلغني كتابك، تعظني وتذكر ما هو لي حظ وعليك حق، وقد أصبت بذلك أفضل الأجر، إن الموعظة كالصدقة، بل هي أعظم أجرًا، وابقي نفعًا، وأحسن ذكرًا، وأوجب على المرء المؤمن حقًّا.

لكلمة يعظ بها الرجل المؤمن أخاه ليزداد بها في هدى، خير من مال يتصدق به عليه، وإن كان به إليه حاجة.

ولأن ينجو رجل بموعظتك من هلكة، خير من أن ينجو بصدقتك من فقر فعظ من تعظه لقضاء حق عليك، واستعمل كذلك نفسك حين تعظ، وكن كالطبيب المجرب العالم الذي قد علم أنه إذا وضع الدواء حيث لا ينبغي أعنته، وأعنت نفسه، وإذا أمسكه من حيث ينبغي جهل وأثم.

وإذا أراد أن يداوي مجنونًا، لم يداوه وهو مرسل حتى يستوثق منه، ويوثق له خشية أن لا يبلغ منه من الخير، ما يتقي منه من الشر، وكان طبه وتجربته مفتاح عمله.

واعلم أنه لم يجعل المفتاح على الباب لكيلا يغلق فلا يفتح، أو ليفتح فلا يغلق، ولكن ليغلق في حينه، ويفتح في حينه، والسلام.

* المصدر : إخوان اون لاين