ثار السؤال عن موقع العمل السياسي في الأطروحات الإصلاحية عند المفكرين الإسلاميين منذ بواكير النهضة وكادت الإحابات الأولى أن تكون مقتصرة بين الاقتصار عليه والابتعاد عنه
ثم برزت الحركات الإسلامية المعاصرة في العالم العربي وبلاد الهند داعية إلى شمولية نظرية وعملية تزاوج بين الإصلاح السياسي والاجتماعي والدعوي والتربوي، و كان ذلك من الميزات التي أهلت هذه الحركات للتجذر في هذه البلاد، بالإضافة إلى أن هذه الحركات اتجهت اتجاها عمليا تخطيطيا منذ للوهلة الأولى أظهرت فيه أن هذا الشمول ليس مجرد أحلام طوبائية أو شعارات عامة، ولعل رسالة الإمام حسن البنا “هل نحن قوم عمليون” أفضل تبيين لتميز شمول هذه الحركات بالابتعاد كثيرا عن الشعارات
ومع تقدم تجربة هذه الحركات واتساع ميادين عملها طرح التساؤل عن كيفية المحافظة على هذه الشمولية؛ فكان من بين الإجابات التي قدمت اتخاذ أحد المجالات الحيوية قاطرة لبقة المجالات، وكان من بينها الفصل والتمييز الإجرائي بين الهيئات المشرفة على مجالات الدعوة وببن تلك العاملة في المجال السياسي
وقد جاءت النتيجة خلال الفترات الأولى من هذه المرحلة بتميز الحصيلة السياسية للحركات التي اتخذت العمل السياسي قاطرة، وتميز الحصيلة الاجتماعية والتنظيمية الحركات التي اتخذت التربية والدعوة قاطرة لها
ومع استمرار كل الحركات في العمل السياسي والتربوي -مع تفاوت طبعا- إلا أن جاذبية الميدان السياسي وظهور نتائجه الإيجابية سريعا، وشدة انجذاب الناس في العالم العربي للسياسة نتيجة ضخامة الخلل السياسي في واقعهم: هذه العوامل كلها قادت خلال العقدين الأخيرين إلى بروز أطروحات جديدة تكاد – وأنبه على ما في “تكاد” من النسبية- تعود بالإسلام بين الحركيين إلى أطروحة الاقتصار على الإصلاح السياسي التي طالما نبهوا على خطأ تجربتها النظرية مع الأفغاني والكواكبي والعملية مع حزب التحرير
وما كادت هذه الأطروحة تسود حتى جاء المأزق الواقعي للتجارب التي ركزت على الاصلاح السياسي ليطرح التساؤل من جديد: فقد انتهت التجربة السودانية واقعيا ومبدئيا إلى نتيجة مؤسفة، ووقعت التجربتين التونسية والمغربية في خطايا مبدئية بمبررات موغلة في انخفاض السقف السياسي
من هنا فإن التساؤلات الكبيرة والإجابات العاجلة التي تتحدث عن تضخم في مكونة العمل السياسي من التصور الإصلاحي لا تعد صيحة في فراغ ولا ممارسة لأحلام اليقظة، ولا نبذا للعمل السياسي ولا حتى للعمل الحزبي وأكثر من ذلك ليست إنكارا لضرورة الواقعية
إنما هي تساؤل عن حقيقة ما انتهى إليه حصيلة العمل السياسي للإسلاميين وهل من الممكن أن ننتقل من حصره في المشاركة السياسية إلى حصر المشاركة في دخول الحكومات إلى حصر دخول الحكومات في دخول مثل دخول جمهور سينما جحا: مجاني في البداية مدفوع الثمن في النهاية
ثم، إذا كان العمل السياسي هو الأولى بالتركيز في سنين كان فيها يقود إلى دخول البرلمانات والمشاركة الناجحة في الحكومات، ألا يمكن لنا أن نتساءل عن أولويته في زمن يؤدي فيه إما إلى الصدام القاتل أو الانبطاح الشامل
أليس طرحا قابلا للنقاش إذا قلنا إن على الحركة الإسلامية أن تتذكر في هذا الظرف أنها حركة إصلاح شمولي، لا أحزاب سياسية فقط وبالتالي عليها أن تراجع موقع العمل السياسي في تصوراتها وخططها الإصلاحية
مثلا ماذا يضير الحركة الإسلامية اليوم أن تنخرط في عمل معارض غير معاند أو موالاة لا تخرم الثوابت ثم وجهت تركيزها إلى مجالات من الإصلاح الأخرى بعضها لا يبعد كثيرا عن المجال السياسي، وبعضها يعصم مسيرته ويمده بالحاضنة المتميزة، مثل:
- العمل الدعوي والتربوي ونشر العمل الشرعي وإحياء الروح الإسلامية
-الإصلاح الاجتماعي، كمعالجة الاشكالات بين القوميات، والتفاوت الطبقي بين الأغنياء والفقراء، وإشكالية إنصاف المرأة وتعزيز دورها في الحياة العامة
-الاصلاح الثقافي والفكري الذي تخلف فيه الإسلاميون كثيرا منذ ركزوا على العمل السياسي
إلى غير هذه المجالات من مجالات الحياة العامة الكبرى التي هي مثل العمل السياسي يمكن أن توضع فيها خطط واستراتيجيات واضحة وعملية، ويمكن أيضا أن يكون المقدم فيها -و في المجال السياسي- مجرد شعارات وتصورات حالمة