عطفا على ما أشرت إليه في التدوينة الأصلية حول الرسالية، والجمع -مع ترتيب الأولويات- بين الدعوة والسياسة (رابط التدوينة المذكورة في أول تعليق)، أضيف هنا بعض ضوابط المشاركة السياسية المشار إليها، مسترشدا حسب المتاح بكلام أهل العلم في بلادنا حفظهم الله، على نحو أعانني شخصيا وأحسبه سيعين الكثيرين في ترشيد تلك المشاركة:
أ) للمشاركة السياسية خيارات رئيسية كبرى حسب ما يتوسم فيه صاحب رسالة العمل للإسلام المصلحة الأكبر:
- فقد تكون المشاركة السياسية تعاطيا واعيا عاما مع الشأن السياسي، وقد تأخذ شكل المشاركة الحزبية.
- وقد تكون المشاركة السياسية من خارج النظام القائم كما تكون من داخله؛ ففي مقابل تجربة ناجحة كتجربة أربكان رحمه الله في تركيا التي تمثل نموذج الإصلاح من خارج النظام القائم، نجد تجربة أخرى ملهمة هي تجربة مهاتير محمد بماليزيا التي مثلت في بدايتها نموذج الإصلاح من داخل النظام القائم.
وكلتا التجربتين أوصلت إلى مستوى معتبر من االتمكين. - وبخصوص العمل من داخل الأنظمة الحاكمة تحديدا، تُروى لنا كلمة للشيخ محمد سالم ولد عدود رحمه الله يشبه فيها حال العاملين للإسلام من داخل الأنظمة الحاكمة بالتجار؛ فهم تجار للإسلام، ويعظم ربح العمل الإسلامي بقدر ما تكون المصالح التي تجلب من خلاله كبيرة والمفاسد قليلة.
- ب) تبقى أملا كبيرا استجابة العلماء لدعوة الشيخ عبد الله بن بيه لهم بأن يسعوا إلى وحدة الصف ونبذ التفرقة، حيث قال إن على العلماء تطبيق كلمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وهي “أفيضوا مجالسكم بينكم”، مطالبا باجتماع العلماء ولقائهم الدائم، وابتعادهم عما أسماه منهج “الاتجاه المعاكس”، ومحذرا من إعطائهم فرصة للإعلام لضرب بعضهم ببعض.
-
ج) في البحث عن مساحة المشترك، وجه رئيس حزب الفضيلة الشيخ عثمان ولد الشيخ أبي المعالي مرة دعوة لجمع من القادة السياسيين في البلاد، حذر فيها مما سماه “الانطواء التام بين الأطراف السياسية”، ودعا إلى التواصل بشكل مستمر، وحرص على لفت الانتباه إلى وجود الكثير من القواسم المشتركة بين الطيف السياسي الموريتاني مثل الأمن والوحدة والتنمية.
د) بخصوص الاشتغال بالسياسة، وما أثير حوله وحول أثره على الدعوة، يؤكد الشيخ محمد الحسن ولد الددو أن مفاسد ترك الاشتغال بالسياسة لا تقل عن مفاسد الاشتغال بها؛ لأن جرة قلم من السياسة تستطيع أن تضيع جهودا دعوية كثيرة، وقد شاهد الناس في بعض الدول كيف أُغلقت المساجد، وغُيرت المناهج، وأُحل ما حرم الله وحُرم ما أحل الله. ولكنه يوضح أن ذلك لا يعني أن يحول العمل كله سياسيا، ويترك العمل الدعوي، بل لا بد من الموازنة، بحيث لا يلهي بعض الواجبات عن بعض؛ فالمطلوب هو القيام بالحق الواجب مطلقا والموازنة.
وحول الأثر السلبي للسياسة على المكاسب التربوية للمشتغلين بها، والوقاية من ذلك وعلاجه، ينصح الشيخ محمد الحسن ولد الددو المشتغلين بالسياسة بأن لا يغفلوا عن أنفسهم، وأن يهتموا كثيرا بالجانب التعبدي، وبالصدق والعفاف في ألسنتهم، وأن ينوروا بصائرهم بنور الله في خلواتهم فيما بينهم وبين الله، وأن يصدقوا في التعامل معه ويتوجهوا إليه ويدعوه كثيرا ويسألوه. كما يبرز حاجتهم إلى دورات تربوية مكثفة لعلاج ما يتسلل إلى طباعهم بفعل فساد كثير ممن يخالطونهم، ويبين أن من دخل هذا المعترك لا بد له أن يتسلح، وإذا ذهب إليه بغير زاد إيماني كان كساع إلى الهيجاء بغير سلاح.ه) للشيخ عبدالله ولد أمينُ نصيحة جليلة في بيان كون كل من الموالاة والمعارضة موقف نسبي، بحسب الصواب والخطأ، وليس أي منهما موقفا مطلقا؛ ويقول فيها: “البعض يظن أن مقتضى كونه من الموالاة أن يدافع عن كل ما يصدر من السلطة ويستصوِبه، ولو كان من أَبْيَن الخطأ وأقبح الخطل، حتى تجد بعضهم يتكلم أو يكتب وكأنه الناطق الرسمي باسم الحكومة، كما أن بعض المعارضين يرى أن مقتضى المعارضة أن يرفض كل ما يصدر عن السلطة ويستقبحه ولو كان بيِّن النفع جلي السداد.
و) وقد أفاد الشيخ محمد بن بتار بن الطلبة في بيان جملة آداب أخرى مهمة عند ممارسة السياسة في مواسمها المتكررة؛ فقال:
بِروحِ الهُدى خُضْ في السِّياسةِ نابِذًا۞
خَنَا القوْلِ ، أوْ خَلِّ السِّيَّاسَةَ جَانِبَا
ولا تَطْوِ ممَّنْ لمْ يُطِــــعْكَ مَحَــاسِنًا۞
لِتُـــــذْكرَ ، أوْ كَــيْ تَسْتَــجِدَّ مَثَالِبَا
فَإِنْ أَمْكَنَتْ مِن غيبةِ الخَصْمِ فُرْصَةٌ۞
فَلَيـــــسَ الذي تَدْعُو لِنَصْرِكَ غائبَا
وكُنْ في سَنَا جَوِّ النِّضَــــالِ مُنافِسًا۞
ولا تَكُ في صَفِّ العَدَاءِ مُنَاصِــبَا
فَلَسْــنَا لأعْـــــدَاءٍ نُـــعِدُّ و إنـَّـــــــما۞
نُواجِـــــــهُ أحْبــــابًا لنا و حَبَـــائِبا
ولَوْ سَاعَفَ المَقْدُورُ ما انشقَّتِ الْعَصا ۞
ولكِنَّــــهَا الأَيَّامُ تُبـــدي العجائبا
و ليْــــسَ عليْـــنا جَعْلُــــهم ذَنَبًا لَنَـــا۞
ولكِنْ عليــــنا أن نَكــــونَ ذَوائِبا
مَنَاصِبُ دُنْـــيَانَا إذا هِــــيَّ لمْ تَكُـــنْ۞
مَطــــايا لأُخْرانا تكونُ مَصــــائبَا.