كان مختلطًا ومتضاربًا وعاصفًا كموجٍ متلاطم، ذلك الشعور الذي خلّفته في النفس متابعة فيلم (ما خَفيَ أعظم) على شاشة قناة الجزيرة، والذي تناول تفاصيل رحلة جهاد واستشهاد البطل التونسي محمد الزواري، مهندس صناعة الطائرات المسيّرة، في كتائب القسام.
محمد الزواري هو واحد من أولئك الذين ينتشر طيب سيرتهم عندما يرتحلون عن الدنيا، يكونون فيها جنودًا مجهولين لا تتعلق الأنظار بهم، ويمرون بين ساكنيها دون أن ينالهم حظ من تبجيل أو ثناء، لكنهم برحيلهم يصنعون ملحمة ثنائية المعنى والأثر؛ أوّلها إجلال وثانيها أسَف؛ إجلال لكلّ ما قدموه، وما صنعوه، وما أحدثوه من بشائر متناثرة في فضاء متخم بالهزيمة، وما سطّروه كإنجازات مدهشة في سِفر المقاومة، وأسَف لسهولة رصد العدو لهم واغتيالهم في أوطان تخفق في صَوْن أحرارها.
أتذَكّر كم كان الاحتفاء الفلسطيني مختلفًا ومهيبًا يوم كشفت كتائب القسام عن إدخالها (طائرات الأبابيل) إلى مجال عملها العسكري، وكيف نُظِمت القصائد والأناشيد تغنيًا بهذا الإنجاز الفذ الذي أنتجته تلك البقعة المحاصرة. لم يكن ليخطر ببال أحد أن كلمة سرّ ذلك الحبور إنما كانت مكنونة في كفّ هذا التونسي النبيل، العابر حدود العجز، والمتجاوز كل المسافات الطويلة، والمسافر نحو فلسطين على جناحين من عزيمة، والسائر أبدًا تحت غيمة من إصرار، تمدّه بالندى في كل دروب المشقة التي خاضها، ومعه فريق تصنيع الطائرات من فنيي كتائب القسام، وذلك الضابط العراقي الذي منح الطائرة سرّ السموّ.
طائرة حماس تلك التي تعلّقت أهدابنا بها في حرب (العصف المأكول) وهي تحلّق في السماء فتحنو على آلامنا بقدر ما كانت تعلو فوق الجبروت الصهيوني وهي تصور حصونه ومواقعه، كانت طائرة الحلم العربي والإسلامي، لأنها تمثل تلك العلاقة القائمة دومًا بين فلسطين والأمة، ولأنها تجسّد ذوبان الحدود وتلاشي الوطنيات الضيقة، وتسدد ضربة إلى كبد الأنانية القُطْرية، طائرات حماس لم تكن فقط قسامية فلسطينية، كانت عربية مسلمة، وكانت أممية محلّقة، لأنها حين كانت تقول إن الساعد الفقير يمكن أن يستنبت الزرع من جدب الفيافي، كانت تؤكد في الوقت نفسه عدم استغنائه عن سواعد أخرى تُقيم أوَده، وتثري تجربته، وتعينه على نوائب الاحتلال، فتزرع معه وتشاركه في الحصاد، كما تتألم لجرحه وتنتشي لفرحه.
أما محمد الزواري الإنسان، هذا الذي حاز المجد من أطرافه كلّها، وهذا الذي صهل شريان دمه في حيّ بعيد في صفاقس التونسية، فتردد صداه مدويًا في غزة، ثم صادحًا في جنبات الأمة كلها، هذا الذي أقام الحجة على جميع المتعللين بالحدود والحواجز والتحديات، وهذا المتجرّد من كل شيء؛ من وعثاء الدنيا ورهبة الإقدام وبريق الشهرة وحظ النفس، المنحاز إلى مبادئه الخفية العظيمة، كان يؤدي فرض الجهاد في كل حركة وسكنة؛ في انسحابه من مضمار الأنا، في إنكاره ذاته الحقيقية، في إخفاء هويته حتى عن زوجته، في اختياره أن يعيش في عداد المجهولين، في يقينه المتفاعل إيمانًا وثقة بأنه ما دام الله يعرفه ويطّلع على نيته وأثر عمله فلن يضيره أن تنكره الدنيا كلّها، وألا تستضيفه الشاشات ليحكي تجربته، وألا تهتزّ الموجات الإعلامية في العالم في الساعات الأولى لاغتياله.
محمد الزواري حسم أمره منذ سنوات طويلة، لم ينتظر حدثًا استثنائيًا لكي يذكّره بفريضة الجهاد، ولم يقف على أطلال مجزرة ليستحلب منها غضبًا آنيا سرعان ما يهمد، بل حزم أمتعته منذ وَعى أن العمر لا ينتظر الإنسان حتى يؤدي جميع فروضه وهو جالس في مكانه، وأن السيوف الصقيلة ستصدأ حتمًا إن ظلت في أغمادها تترقّب الفرصة المناسبة أو الوقت الأمثل للجهاد.
كان ينفض الغبار الذي يتراكم على كتفه ويمضي، ينتقل من عاصمة إلى أخرى، ومن جوّ إلى آخر، ويجدّ في بلوغ هدفه، ثم يؤوب إلى موطنه بعد سقوط الطاغية الذي شرده منه، ولا يستثقل ألا يُستقبل على بابه استقبال الفرسان والأبطال، بل يعود ليقطن حيّه المتواضع، ويمارس حياة عادية. لكنّ تلك الحربة الغادرة التي تضمر له الثأر لم تنسَ أنه كسر نصلها وأدمى جبين حامليها، ومرغ شرفهم العسكري في وحل غزة، فظلّت تترصده حتى نالت منه وحيدًا في موطنه، وبعيدًا عن رفاق مسيرته المتعِبة الجميلة.
كانت الدنيا تضيق حتى تكاد تنحشر في تلك الرصاصة التي انغرست في جبينه، وكانت تتسع حتى يكاد صدى الرصاصة يجوب جهاتها الأربع، لكن قلب محمد كان يسكن أخيرًا إلى غايته، ويظفر بالبداية العليا، ويحوز العظمة المثلى المتفوقة على كل ما عُرف عنه وما خفيَ من سيرته.
محمد الزواري مدرسة، وما أحوجنا إلى الانتظام في صفوفها، لنتعلم أبجديتها، ونتكلّم لغتها المعتمدة، ونكتب على كراساتها، وننعم بدرجاتها، ونغتنم شهادتها.
كاتبة فلسطينية