قد يكون لبعض المقولات السيارة سلطان على عقول بعض الناس، ليس بسبب مما أودع الله فيها من سلطان، ولكن بسبب من تطويعها لبعض الحقائق أو لركوبها بعض المقدمات المشوهة من أجل الوصول إلى نتائج بعينها، ومن هذه المقولات التي تحولت إلى ثقافة وموجهات للرؤى والقناعات، مقولة “العملية ضد النظرية”، أو الإنجاز ضدا على الفكر، وأنا هنا أؤكد على أطراف المتراجحة، فهذه المقولة تقدم نفسها دوما بهذا الشكل؛ بمعنى الرفض المبطن لتساوق النظر والفعل، الفكر والحركة، العلم والعمل ..
ولأن الموضوع شاع وذاع، حتى غدى بحجم رؤى فلسفية تصادر غيرها فسأعتبر هذه المقولات” أساطير النزعة العملية”..
إن أهمية مناقشة هذه المقولات أو المؤسَسات يجد أهميته في خطورة قيادة مثل هذه الرؤى للحياة العقلية والحركية للناس، فإذا كانت الأمة تعاني مشكلات شتى، فإن تصدر المقولات السطحية لحياتها العقلية لا يقل خطرا عن وجود التكفير والتطرف والتعصب..
ومن عجائب الموافقات أن يتقاسم فريقان متباينان في المنطلقات والأهداف هذه الرؤية الثقافية والذهنية، ويتعلق الأمر بشكل صريح بتيار التفريطيين والاستسلاميين الذين يريدون إيقاف الجهود الحضارية للأمة من خلال إشاعة الوقوعية والتسليم للقوى المسيطرة عالميا، وبجزء من الإسلاميين الذين يضيقون ذرعا بإفراد مساحة أكبر للنقد أو للتطوير أو الاستدراك أو حتى التأسيس، وإذا كانت دوافع فريق النخب الحاكمة ورديفهم الثقافي من الليبراليين مفهومة، فالغالب أن أسباب مواقف الفريق الثاني في هذه القضية، هي أسباب ثقافية ولا نستبعد أن تكون في بعض الأحيان حركيّة تتعلق بإكراهات صعوبة التفريق بين الذات والموضوع..بين الاستئسار للحظة والنظر إلى أفق المسار..
التمييز ضد العلوم الإنسانية
يخطئ كثير من متناقلي المقولات السيارة حين يربطون طورا بين التنمية والعلوم التطبيقية باعتبار النهضة الثورة وليدة المعادلات الرياضية وقونين الفيزياء وحذاقة المهندسين، أو بين الرفاه والقضاء على البطالة والعطالة وبين تعليم مهني صرف؛
أما بشأن المقولة الأولى فإن هؤلاء يتجاهلون أو يجهلون أن الثورة الصناعية الأوروبية إنما جاءت كثمرة لعصر النهضة الأوربي الذي امتد من القرن الرابع عشر الميلادي حتى القرن السابع عشر، ومثل مرحلة الإحياء الثقافي والفكري التي مهدت لانبثاق الإصلاحات السياسية والاكتشافات التقنية ولسيادة المنهج التجريبي الذي تم تطويره في الدورة الحضارية الغربية بعد أن ولد في كنف الحضارة والثقافة الإسلامية..
أما المقولة الثانية فإنها تتعامل مع الإنسان ومع الظاهرة التنموية والنهضوية تعاملا ميكانيكيا وتبسيطيا، باعتبار البشر كائنات مجوفة بقابليات واستعدادات آلية لا ينقصها سوى الحقن بمهارات عملية ثم يتم توجيهها إلى ساحات الإنتاج ومختبرات المعامل، وباعتبار التنمية عملية تلقائية نتاج وفرة يتيحها العمل والكد..
لهؤلاء نقول أين أشواق البشر وأين دوافعهم، وأين آمالهم، ولماذا يعملون، وكيف نجعل ثقافة العمل والإنتاج تسود عند الناس، وتشكل باعثا حقيقيا في سلوكهم؟ !، لم يفهم هؤلاء أن كل هذه المعاني هي نتاج تشكل حضاري ثقافي ونفسي هو الذي يقود إلى الإنتاجية وإلى الإبداع وإلى المعنى وإلى الإنتماء ثم إلى التضحية والإحساس بروح الجماعة..
إن الذي “يبشر” بصراع بين حقول المعرفة الإنسانية هو إنسان تافه جاهل، أو مستبد ماكر خداع، وكثيرا ما يخاف المستبدون والمفسدون من العلم ومن الوعي، لأنه يفضح دجلهم وينير البصائر لتعي ذاتها وحقوقها..
واقعية ووقائعية
تأخذ الحرب الثقافية على النظر والتأمل والتشخيص والاستدراك شكلا آخر، فالواقعية تقتضي إبعاد التأملات الحالمة، و”الكلامُ الثقافي” يكون غالبا خلوا من استحضار إملاءات الواقع وإكراهاته، وقد يدعي البعض أكثر من ذلك أنه غير مدرك لحقائقه، الفكر والقول في هذه الأسطورة غير معنيين بالممارسة لأنهما لا يكتويان بنيران الواقع، والبرامج التي ترفع السقف في التعامل مع الواقع حالمة ومثالية وساذجة، وللمرحوم الدكتور عبد الوهاب المسيري في الرد على هؤلاء كلام قيم حمل معنى عميقا، فهو يرى أن هناك فرقا بين الواقعية والوقائعية؛ فهو يرى أن الواقعية هي وصول لجوهر الواقع الذي هو الماضي والحاضر والمستقبل، وكأنه يقول إن الواقع أوسع أفقا من اللحظة، والوصول إلى جوهر هذا الواقع ـ المتجاوز إذن لإكراهاته حسب فهمنا ـ يمكّن من الربط بين الوقائع المختلفة وترتيبها وتجريد معان عامة منها تتجاوز كل معلومة على حدة، أما الوقائعية فهي ارتباط بالحاضر فقط، وهي عملية ترصد الوقائع، وتعجز عن رؤية الكامن في حركة التاريخ والمجتمعات ومغالبات الصراع..
من هنا تدلف البرامج الوقوعية والتيارات الثقافية التي تسعى لإضعاف مقومات القوة والرفض، رفض مفردات الواقع الكئيب، وتدلف الحركات الثقافية المبشرة بالهزيمة..
التيارات الإسلامية، بطبيعة الأشياء، لا يمكن أن تصنف في هذا المعسكر، إلا إذا وقعت في خطيئة مواجهة نفسها، بمعنى أن الديماغوجية والواقعية لن تكون ولا يجب أن تكون عذرا ولا سببا في الزهد في الزاد النظري، مهما كانت وجهته النقدية، ومضامين وصاياه، فيجب الكف عن النظر إليه بكونه عائقا، وقيدا.. ذلك أن الأدلة النظرية ستظل ضرورة للجهود الإصلاحية؛ وكثير من التخبط والفشل إنما كان بسبب غياب الدليل:
قدّر لرجلك قبل الخطو موضعها***فمن علا زلقا عن غرة زلجا
فبالعلم والعقل المنهجي يختصر الطريق، وتضاء جوانبه، وتتجنب مهالكه ومفاوزه..ومع إطلاقية الفكر التي نحتاجها دوما لضبط المسير، فهو كذلك ليس مبادئ لضبط المنطلقات وحسب، ولكنه مبادئ وكليات ومناهج سير ورؤى عمل وتشخيص وقائع، وتعامل بمعطيات العقل لاكتشاف سنن الحياة وقوانين حركتها..
إن دليل العلم والنظر لن تستغني عنه أمة، وخصوصا في مراحل التأزم الحضاري، وأزمنة عدم اليقين، ودورات التخلف والتراجع، حيث تتشوه الثقافة الاجتماعية وتصاب الخصائص النفسية والاجتماعية التلقائية بالتشوه، مما يحوج إلى النقد والنظر والتبين.
العملية الممدوحة، والجدلية المقبوحة
وربما تسللت هذه النظرة الاستخفافية، من المساهمات التنظيرية في الحياة، إلى النفوس بسبب فهم مخلط وإسقاط سقيم لبعض القيم في التراث التربوي، فقد أعلى الدين من قيم النبل العملي وصدق اللهجة والأداء الصامت، وعاب المتفيهقين والمجادلين والمرائين والمسمعين..ليقدم البذل في صورته الزاهية في مقابل الجدل والتعالم الذي لا تنبني عليه فائدة علمية ولا حضارية..
ولكن هذا المعنى لم يفهم قط ،قبل عهود الإنحطاط، على أنه تقابل بين العلم والعمل، وشكلت النصوص رؤيتها الواضحة للصلاح والفلاح في تلازم العلم والعمل، بل إن النصوص والتراث التربوي الصحيح قدموا العلم على العمل باعتباره دليله وضامنه..وبهذا المعنى طفحت نصوص كثيرة معلومة..وبهذا المعنى بوب البخاري (باب؛ العلم قبل القول والعمل) وأفرد واحد وخمسين بابا في كتاب العلم من صحيحه..
من هنا تغيب مصداقية الإيحاءات اللاإرادية بتذيل الجهود النظرية لمقامات الرقي التربوي والسمو الخلقي، ومن هنا يجب الكف عن الخلط الدائم بين الهرطقات الجدلية وبين الجهود العلمية والنظرية الإصلاحية.