لم أجد أبلغ وصفا لإحساسي وأنا أقرأ كتاب وائل حلاق (الدولة المستحيلة) مما وصف به جون لوك إحساسه وهو يقرأ رسالة معاصره روبرت فيلمر (1589-1653) عن "السلطة الأبوية" The Patriarcha. يقول جون لوك:
"لم أكن لأنظر إلى هذه المقالة [كتاب فيلمر]... لو لم تضطرني هيبة العنوان والرسالة، والصورة المثبتة في صدر كتاب السيد روبرت فيلمر (Filmer) والتصفيق الذي أعقب ظهورها... لذلك أخذتُ كتاب السيد روبرت فيلمر بكلتا يديَّ، وكلِّي شوقٌ للاطلاع على محتوياته، وقرأته بروح الاهتمام الذي يستحقه مؤلَّف أحدث تلك الجلبة عند ظهوره. ولا يسَعني إلا الإقرار أني دُهشت كل دهشة حين لم أجد في هذا الكتاب -الذي كان يرمي إلى تكبيل البشرية جمعاء بالسلاسل- سوى نسيج من خيوط العنكبوت قد قد يكون ذا غَناء لدى جماعة تعمل دائبة على إثارة سحابة من الغبار لكي تغشي على بصيرة الناس، فيتسنًّى لها إضلالهم، إلا أنه ليس يُغني في تقييد المبصرين الذين احتفظوا برويَّة كافية للتحقق من أن السلاسل لباس خشنٌ، مهما بالغ أصحابها في صقلها وطِلائها." (جون لوك، في الحكم المدني، ص 5).
وأوجه الشبه بين كتاب "السلطة الأبوية" وكتاب "الدولة المستحيلة" كثيرة، منها: الانجذاب إلى قراءة الكتاب بسبب ما أثير حوله من صخب، وخيبة الظن فيه بعد قراءته بسبب هشاشة بنائه المنطقي، ووجود "جماعة" تسعى لتسويق الكتاب مدفوعة بدوافع سياسية، وتحيزات دينية وأيديولوجية. والفارق الوحيد هو نوع القيْد التي أراد فيلمر و"الجماعة" مِن ورائه تكبيل الناس به وهو سلطة المُلْك الجبري المدَّعي استمدادَ الحكم من الخالق لا من الخلق، وسلطة الأيديولوجيا العدَمية التي يريد وائل حلاق و"الجماعة" التي تسانده تكبيل المسلمين بها، ومنْعهم من استلهام قيَمهم الخاصة في معركة التحرير التي يخوضونها اليوم.
لقد حدد حلاق أطروحة كتابه الأساسية بأن "مفهوم الدولة الإسلامية مستحيل التحقق وينطوي على تناقض داخلي، وذلك بحسب أي تعريف سائد للدولة الحديثة." (الدولة المستحيلة، ص 19). ثم رطَّب الأطروحة قليلا وزادها غموضا وتناقضا في هامش الصفحة (23) من الكتاب. وبغضِّ النظر عن دقة حلاق في تشخصيه لظاهرة الدولة الحديثة، فإن الأسوأ -في نظرنا- هو فهمه للدولة الإسلامية. فهو لا يُعرِّف الدولة الإسلامية بناء على أي رؤية معيارية تستمد مرجعيتها من الوحي الإسلامي أو حتى التنظير السياسي الإسلامي، بل يراها مجسدة في "الظواهر النظرية-الفلسفية، والاجتماعية، والأنثروبوليجية، والقانونية والسياسية، والاقتصادية، التي ظهرت في التاريخ الإسلامي." (الدولة المستحيلة، 38.)
وكان من غرائب حلاق أن ينشغل بالشريعة بمعناها الأخلاقي والقانوني والاجتماعي، ويتجاهل تماما أمهات القيم السياسية والدستورية الإسلامية المنصوصة في القرآن والسنة، وهي أهم دلالة لمن يخوض في موضوع الدولة الإسلامية. بل ويتجاهل تراث المسلمين التنظيري في الفقه السياسي، الذي رجع رجوعا سطحيا لأربعة كتب منه فقط!! أما الفارق الجوهري بين قيم الإسلام السياسية وتاريخ المسلمين السياسي فهو أمر لم يهتم به حلاق، وكان ذلك بداية الانزلاق المنهجي في أطروحته.
لقد استأسر حلاق للصورة التاريخية في تصوره للدولة الإسلامية، في تلاقٍ غريب بين مفكر علماني مسيحي ونشطاء السلفية الجهادية في أسوأ مظاهرها بلاهةً وضيقَ أفق. فالدولة الإسلامية التي يدَّعي حلاق استحالتها لا تختلف عن الخلافة التاريخية الوهمية التي أعلن أبو بكر البغدادي ميلادها، ونصَّب نفسه خليفة على رأسها. وهي أبعد ما تكون عن الدولة الإسلامية التي تسعى القوى الإسلامية الديمقراطية اليوم إلى بنائها، وهذه القوى السياسية أهم وأبرز حضورا من الجماعات السلفية الفوضوية المستأسرة للصورة التاريخية.
الطريف أن حلاَّق -في عدَميته هذه- ينتقد الدولة الحديثة بنبرة المسلم السَّلفي الذي يجعل حكم الشعب نقيضاً لحكم الله، وينتقد الدولة الإسلامية بلغة المسيحي العلماني الذي لا يرى للدين وظيفة سياسية، ثم لا يدرك أنه وقع في تناقض صارخ! فقد جمع حلاق حصاد ما انتقد به الغربيون الغرب ولفَّق منه حكما عاما بفشل الحداثة الغربية، وهذا ظلم للتجربة الغربية لأنه محاكمة لها بهوامش على متنها لا مثلها تمثيلا حقيقيا، وهو يشبه محاكمة الدواء بآثاره الجانبية، لا بمفعوله الشافي. كما رسَم حلاق صورة للدولة الإسلامية مركَّبة من مسار التاريخ السياسي الإسلامي المنحرف عن قيم الوحي الإسلامي والتهويمات السلفية الهامشية في الثقافة الإسلامية اليوم، ثم حكم على تلك الصورة حكما عاما مفاده أن الدولة الإسلامية مستحيلة، وهذا ظلم للقيم السياسية الإسلامية، لأن المعبِّر عن دلالتها المعيارية هو نصوص الوحي، لا ذاكرة التاريخ.
ويكفي من استئسار حلاق للتاريخ تسليمه بثنائية "دار الإسلام" و"دار الحرب" الواردة في كتب الفقه (الدولة المستحيلة، 105)، واعتبارها مبدأ إسلاميا في العلاقات الدولية، وهي ثنائية لا وجود لها في نصوص الوحي الإسلامي، بل هي جزء من التاريخ الامبراطوري الإسلامي. كما أن ما ذهب إليه من تناقض الدولة الحديثة مع الدولة الإسلامية القديمة ينطبق على تناقض الدولة الحديثة مع الدول المسيحية والصينية والهندية القديمة. وقد كان حلاق في غنىً عن المجادلة السطحية بأن استعادة التاريخ الإسلامي -أو أي تاريخ آخر- مستحيل التحقق في الزمن الحاضر، فلا أحد ينكر هذا أصلاً. وهل نحن بحاجة لأكاديمي محترم يقنعنا أن التاريخ الامبراطوري -الإسلامي وغير الإسلامي- ليس قابلا للاستعادة اليوم؟!
وقد جادل حلاق -أيضا- بأن الطابع المحلي للدولة الحديثة يجعلها نقيضا لمفهوم الدولة الإسلامية -التي لا يراها إلا امبراطورية لا حدود لها على طريقة "تنظيم الدولة"- وأن ذلك يقضي بـ"استحالة نشوء دولة قومية على النظام الإسلامي للسيادة الإلهية." (الدولة المستحيلة، 71). وكل من له إلمام بقيم الإسلام السياسية المنصوصة يدرك بيسر أنها تتسع للدولة الوطنية العقارية المعاصرة، كما اتسعت لعالم الامبراطوريات من قبل، بل هي أقرب في منطوقها النصي وفي نموذجها المدِيني النبوي إلى نظام الدول الوطنية العقارية، منها إلى الامبراطوريات العسكرية.
الحقيقة أن طرح وائل حلاق طرحٌ عدَمي، وظلمٌ للدولة الإسلامية وللدولة الحديثة كلتيْهما. فهو ينبني عن جملة مصادرات ومكابرات دون تدليل مقنع، إذ خلاصته أن الدولة الغربية المعاصرة فاشلة، وأن الدولة الإسلامية مستحيلة، وأن التاريخ لم يعرف دولا أصلا! إذ تصل به المكابرة العدمية حد القول: "لم توجد ثمة دولة إسلامية قط، فالدولة شيء حديث." (الدولة المستحيلة، 105).
والسؤال الوارد هنا إذا كانت "الدولة شيء حديث" فهذا يعني أن تاريخ البشرية لم يعرف الدولة قط قبل الدولة الحديثة، وكفى بذلك مصادرة ومكابرة. وإذا كان ذلك ما تنتهي إليه نظرية حلاق العدمية، فما الفرق بين الدولة الإسلامية وغيرها من الدول في وجودها الماضي أو إمكانها المستقبلي؟ ولماذا تستحيل الدولة الإسلامية دون غيرها من أشكال الدول التي لم توجد قط في الماضي، حسب دعوى حلاق؟! وهكذا نجد أن الأمر في النهاية لا يعدو أن يكون موقفا متحيزا من قيم الإسلام السياسية، ومن الإسلام ذاته كدين، لكنه موقف يتستر وراء لغة ملتوية وتناقضات متهافتة.
إن هذا المنحى العدمي ليس حلاًّ، لا لمأزق الحضارة الإسلامية، ولا لمأزق الحداثة الغربية. وعلى عكس ما ذهب إليه حلاق من منزَع عدميٍّ وتنافرٍ أبديٍّ بين الإسلام والدولة الحديثة، فنحن نرى أن التلاقي بين الإسلام والحداثة السياسية ممكن جدا، بل هو حتمي، لكن بناء على قاعدة معيارية صلبة من القيم السياسية الإسلامية، لا تلفيقا ذوقيا وظرفيا، ولا تكراراً لتاريخ مضى وانقضى. كما نرى أن مصير الحضارة الإسلامية اليوم -وربما الحضارة الإنسانية كلها- مرهون بالتشبث بالقيم السياسية الإسلامية "المغدورة" -إذا صح لنا أن نستخدم عبارة تروتسكي في كتابه "الثورة المغدورة- لا بالتخلي عن تلك القيم أو تجاهلها. ووعي المسلمين بهذه الحقيقة يزداد يوما بعد يوم، ولا يستغرب ذلك من يدرك كثافة النص السياسي الإسلامي، وإلهام التجربة الإسلامية المبكِّرة خلال دولة النبوة والخلافة الراشدة.
يستطيع وائل حلاق و"الجماعة" المحتفون بكتابه أن يغرِّروا ببعض الشباب العربي وأنصاف المثقفين المسلمين الذين لا يملكون فكرة واضحة عن قيم الإسلام السياسية في صيغتها النصية المعيارية وفي مسارها التاريخي المتعرج، ولا يدركون أبعاد الصراع الحضاري على قلب الإسلام اليوم، فيقودونهم إلى المراهنة على وهمٍ جديد. ومع ذلك لن تنحل الأزمة السياسية المزمنة في المجتمعات الإسلامية بالقفز على القيم السياسية الإسلامية إلى نظام علماني مُنْبتٍّ من التربة الاجتماعية والثقافية في المجتمعات الإسلامية. فالدولة العلمانية مستحيلة التحقق في العالم الإسلامي إلا بالقهر والجبر، ولا مستقبل للقهر السياسي في عصر الثورات الشعبية والانتفاضات الجماهيرية.
(يتواصل)