في دراسة عرضها الدكتور مصطفى خواص ،من المدرسة الوطنية العليا للعلوم السياسية بالجزائر،أثناء مؤتمر “الإرهاب وسبل معالجته” الذي نظمته مؤخرا كلية الشريعة في جامعة قطر،أكد الدكتور خواص أن إلصاق تهمة الإرهاب بالإسلام والترويج إلى أن الإرهاب منبعه التطرف الديني فقط ،وأن مواجهته تبدأ عمليا من مواجهة الأفكار الدينية ،أمر يريح الكثير من الحكومات العربية ويخلي مسؤولياتها في مواجهة هذه الظاهرة.
الدراسة تنطلق من فكرة أساسية مفادها أن الإرهاب كمنتج في المنطقة العربية ،الأفكار الدينية لا تشكل منه أكثر مما يشكل الغلاف من أي منتج آخر،لذا تحاول الدراسة البحث عن الأسباب الحقيقية وراء انتشار واستفحال ظاهرة الإرهاب في المنطقة بعيدا عن السبب الديني.
ووجد الباحث أن “الحرمان” مصدر كاف للإرهاب ،معترفا بأن الحرمان فكرة ليست جديدة في تفسير الظاهرة ،ولكن العالم العربي غالبا ما يلجأ لتفسير الظاهرة دينيا ويربط الإرهاب بالإسلام ،بل أن البعض لا يجد حرجا في الحديث عن “الإرهاب الإسلامي” ،مشيرا في ذات الوقت إلى أن اعتراف الدولة بأن الحرمان هو محرك أساسي للإرهاب معناه هو اعتراف بمسؤوليتها المباشرة عن زيادة أو خفض مستوى وحجم الإرهاب في داخلها أو في محيطها.
وسعى الباحث لمحاولة فهم وتفسير الكيفيات التي يساهم عبرها الحرمان في خلق البيئة الملائمة لانتشار الإرهاب ،مستهدفا ما يسميه “تفكيك المنظومة التي تنتج الإرهاب” وليس الإرهاب الذي اعتبره الباحث “منتج نهائي” القضاء عليه عمل تكتيكي يمكن أن تقوم به أي منظومة أمنية مثله مثل باقي الجرائم الجنائية. ويشير الباحث إلى أن الإرهاب عندما ننزع عنه غطاءه الديني يمكن التعامل معه مثلما نتعامل مع أي جريمة عادية يعاقب مرتكبها من طرف الدولة والمجتمع ،ويعتبر مجرد منحرف لا يمكنه أن يبرر فعله تحت أي ظرف.
ويضع خواص تعريفا للحرمان (Deprivation) ويقول أنه “شعور ووعي الأفراد للتناقض بين القيم وظروف الحياة التي يطمحون إليها ويعتقدون أن لهم الحق فيها،والفرص التي يحصلون عليها والظروف التي يعيشونها حقا”. ويؤكد أنه كلما زاد هذا التناقض بين توقعاتهم وبين الواقع المعاش زاد معه شعورهم بالحرمان، مشيرا إلى أن مظاهر الحرمان لا تتعلق بالأمور الاقتصادية والمعيشية فقط بل تتعداها إلى الجانب السياسي والاجتماعي والثقافي..وأن هذا الحرمان الذي يعاني منه المواطن قد يكون دافعا للتمرد.
ويرى الباحث أن هناك طرقا عديدة لقياس الحرمان في مجتمع ما ،كما يقسم مظاهر الحرمان إلى ثلاث عناصر أساسية هي كالتالي:
– أولا: الحاجيات الإنسانية الأساسية ،أو الحقوق المبدئية التي يجب أن تتوفر لدى كل البشر (الماء والغذاء والعمل والمسكن والرعاية الصحية والصرف الصحي والأمان..وغيرها)ذ.
– ثانيا:أسس العيش الكريم ،وتتضمن الوصول إلى أساسيات المعرفة والمعلومات والاتصالات ومظاهر الرفاه المادي والروحي على المستويين الشخصي والجماعي.
– ثالثا: الفرص ،وتنطوي على الحقوق الفردية والحرية الشخصية وحرية الاختيار والتجمع والتسامح وكل ما يتعلق بالحريات المدنية والسياسية للمواطن المعاصر.
وفي هذا الشأن يفسر الباحث أسباب ظهور بعض الجماعات الإرهابية في العالم ،فيقول أن ظهور “بوكو حرام” في نيجيريا كان له ظروفه الملائمة والمتوفرة ،فليس من قبيل الصدفة مثلا أن يظهر التنظيم في شمال نيجيريا الذي يعاني من فقر مدقع ونسبة بطالة مرتفعة جدا. وبالتالي فإن القضاء على الإرهاب لا يمر إلا من خلال القضاء على ظروف الحرمان التي يعيشها المواطن هناك.
دوافع الانضمام إلى “داعش” في 5 من بلدان شمال إفريقيا
وخلال حديثه عن الإرهاب في المنطقة العربية ،يؤكد الباحث أن الظاهرة لها ثلاثة صور أساسية في المنطقة وهي: الانتقام والترويع والتطهير. ويشير إلى أن الذين يمارسون الإرهاب في منطقتنا العربية لم يصلوا ولا مرة إلى تطبيق نموذجهم السياسي والاستيلاء على الحكم مثلا ،إذ أن غاية ما وصلوا إليه هو ترويع المجتمعات والانتقام من بعض فئات المجتمع وممارسة التطهير ضد الخصوم.
وتطرق في هذا الصدد إلى أعداد العمليات الإرهابية التي نفذت في الجزائر ومصر والعراق وسوريا واليمن والسعودية وليبيا ،وأكد أنه في العموم لا يزال الإرهاب نتيجة حتمية لحالات الحرمان الشديد الذي تعاني منه شعوب المنطقة ،على عكس ما يتم الترويج له من أن الأفكار المتطرفة في التراث الإسلامي هي فقط السبب المباشر للعمل الإرهابي ،فهذه الافكار ما هي إلا عامل مساعد يبرر ميل المواطنين إلى الانخراط في الجماعات الإرهابية وتبني خطابهم الديني.
ويشير الكاتب هنا إلى دراسة قامت بها شبكة “الأفروبارومتر” سنة 2015 حول أهم الأسباب التي تدفع الشباب في شمال افريقيا للانضمام إلى “داعش” وأخذت عينة مكونة من حوالي ستة آلاف شخص ينتمون إلى خمس دول هي :الجزائر ومصر والمغرب والسودان وتونس. ووصلت الدراسة إلى أن أغلب الشباب يلتحقون بالتنظيم لأسباب لها علاقة مباشرة بالحرمان ،حيث ظهر الفقر كأول سبب يدفع الشباب إلى أحضان الارهاب بنسبة 25% أي ربع النسبة ،في حين البطالة ونقص التعليم 15% و10% أي ربع آخر من المنضمين إلى داعش. وبالتالي نصف المنضمين إلى داعش تدفعهم حالات الحرمان من العمل والتعليم وغيرها.
كيف انتهت 268 جماعة إرهابية في العالم (1968-2006)
كيف انتهت 268 جماعة إرهابية في العالم (1968-2006)
من جهة أخرى ،بيّن الباحث كيف انتهت 268 جماعة ارهابية في مختلف أنحاء العالم بين (1968-2006) ،وقال أن المزاوجة بين السياسة والعمل الأمني في مجابهة الإرهاب أمر ضروري ومفيد ،إذ أن جل عمليات العنف والتمرد لها جذور سياسية، وبالتالي فإن الحلول السياسية يجب أن تحظى بالأولوية في أي استراتيجية لمحاربة الارهاب ،وبدون ذلك قد يكون إخماد الظاهرة إما مستحيلا وإما مكلفا جدا.
ويستنتج الباحث مصطفى خواص في نهاية دراسته أن هناك علاقة طردية قوية بين ازدياد الحرمان بأوجهه المختلفة وانتعاش الظاهرة الإرهابية. وأنه لا يوجد علاقة قوية بين كما يروج له بين انتشار الأفكار المتطرفة والظاهرة الارهابية. لكن أغلب البلدان العربية تركز للأسف على انتشار الافكار المتطرفة كسبب رئيسي لانتشار الإرهاب ولا تريد أن تعترف أن طبيعة النظام السياسي الحاكم ودرجة فعاليته وقيامه بوظائفه هي المحدد الاساسي في انتشار الإرهاب.