محمد ولد محمد مبارك.. القائد بن الحمَّال

سبت, 18/08/2018 - 20:23
رأس اللائحة الجهوية المرشحة للنيابيات في نواكشوط

كان الفتى النحيل إذا تبختر في الجانب الغربي من وادي أبي تيلميت ريئت مخايل الصرامة في مشيته، وإذا لاعب أقرانه جادل حتى يغلب الحق باطله؛ فكان التسليم أجدى من محاججته.

غلبت عليه في الأسرة وبين الزملاء في المدرسة، وفي المحظرة، صفة الخصم الذي لا تغلب حجته.

يخطو ولد محمد مبارك اليوم في منتصف عقده الخامس، وهو يستعيد ذكريات أيام لم تسجل عليه أن سكت عن الإدلاء برأيه أو لاذ بالصمت تحرجا من التعبير عن موقف.

في الميناء حلت الأسرة الفقيرة النازحة من أحزمة الجفاف، وخناك عمل والد محمد حمالا ضمن الدفعات الأولى من الملتحقين بميناء نواكشوط حديث التأسيس، وظل الوالد المتدين يوفر لابنه أسباب التفوق الدراسي قاطعا على نفسه عهدا أن يجنبه طريق حمل الأثقال التي أجبرته عليها الظروف.

لم تتأخر مخايل القيادة في الظهور، وظل ولد محمد مبارك قائدا لفصله الدراسي أينما حل.

وفي الثانوية رقم 9 قرأ أبجدية النضال فتحرج مندوبا طلابيا ناضجا لتمثيل طلاب جامعة نواكشوط.

تغيرت أشياء كثيرة في شخصية ولد محمد مبارك إلا صورة المناضل نصير المظلوم؛ فقاد النضال عن ملف 350 أسرة من سكان "الكبة" حصلوا في النهاية على قطع أرضية

عام 2012 ساند إضراب الحمالة من موقعه مستشارا ببلدية الميناء، وكلل الإضراب بتحقيق مطالب للحمالة في اتفاق مع وزارة الشغل والوظيفة العمومية.

كان "مسجد قطر" بالميناء واحدا من منابر الصحوة الإسلامية الرائدة، وبحكم السكن كان محمد من واد المسجد، فأثمر غراس البيئة المحافظة سريعا، وانفتحت أمام الشاب الطرير مفتتح عقد التسعينيات من القرن العشرين طريق رآها لاحبة ستعبر بأحلامه إلى عالم يسوده العدل، ويستنشق نسائم إشراق نفخة الروح، متخففا من أعباء "قبضة الطين"، وفاءَ إلى "ظلال""سيد قطب"، وهو يريه "معالم طريق""السلام العالمي" عبر بوابة "الإسلام" ليستيقن الفتى المشاكس أن "المستقبل لهذا الدين".

ارتخت قليلا حماسته للأسباب المادية المحضة، وحلق الإيمان بإطلاقات "سيد" بعيدا بأحلامه، فتصور الزمن وهو يركع تحت أقدام "الجيل الفريد" الجديد، وارتسمت لوحة أمة الجسد الواحد تخفق أعلامها من جاكارتا إلى نواكشوط... الإسلام وطن، والخلافة هدف.

استولى النشاط الإسلامي في الجمعية الثقافية الإسلامية وواجهتها الشبابية، نادي مصعب، على كل جوانح الفتى ذي الملامح الصارمة. جاءت أزمة 1994 فرأى ولد محمد مبارك أحلام جيل من الشباب تتلاشى، وجهودهم في إقامة نشاط إسلامي يلبي رغبات فئام الشباب الملتفة حول الصحوة الإسلامية تقمع.

 استولت على عقل الشاب مقموع الأحلام أسئلة كثيرة، وهو يرى الصحوة الإسلامية في موريتانيا تدفع إلى مصير أختها في الجزائر التي تفاعل مع انتصاراتها، وهزته دماؤها النازفة، لكنه قرر أن يكون هو كما يريد، وكما هو مقتنع، لا كما يراد له أن يكون.

الإسلام الذي تعلمه، والذي حلم به.. الإسلام الذي قرأ عنه، والذي سعى إلى إقامته في نفسه، ليس هو الذي يصوره إعلام ولد الطايع، وليس هو الذي تسال الدماء على جنباته في الجزائر بين الإخوة المتقاتلين.

وسرعان ما قرر الانخراط في إعادة التأسيس ضمن جموع الشباب التي اختارت العمل الثقافي من خلال الجمعيات الشبابية، التي عمل بها بالتوازي مع النشاط الطلابي في جامعة نواكشوط.

كانت الجامعة منتصف التسعينيات متنفسا للعمل السياسي المقموع نسبيا في الساحة العامة، وكانت طلائع الشباب الإسلامي الممنوع من العمل السياسي الشرعي تتخذ منها منبرا لنشر الفكرة الإسلامية التي تلقى إقبالا منقطع النظير.

ولم يجد شباب التيار الإسلامي أفصح لسانا، ولا أبين منطقا، ولا أكثر راديكالية في التعبير عم المطالب التي امتزجت فيها المثالية الشبابية، بتنفيس مكبوتات الظلم السياسي العام، من محمد ولد محمد مبارك، فكان مرشحا دائما للمندوبية في قسم اللغة الإنجليزية حديث التأسيس بالجامعة الفتية. فقد أهلته باكالوريا الآداب العصرية التي نال سنة 1994 ليكون ضمن الدفعات الأولى من خريجي قسم اللغة الإنجليزية، بعد خمس سنوات.

عام سبعة وتسعين تسعمائة وألف اندلع أطول إضراب في تاريخ الحركة الطلابية، وأكثر الإضرابات حيوية، وتفاعلا، فلمع نجم الفتى الأسود بخطبه الطوال، التي يتداخل فيها السياسي بالنقابي، بخطاب الهوية، ولكنها تصاغ بعربية بيضاء تمتزج بحسانية أصيلة مخارج الحروف.

نال ولد محمد مبارك نصيبه قمعا، واعتقالا وتنكيلا، ولم يكن ذلك ليثنيه عن العمل الدؤوب في كل ساحة تنفتح، حتى اقترن اسمه بكل المنابر التي يظهر فيها الإسلاميون، في الجماعة والمسجد والساحة الثقافية، وفي المنابر الحزبية.

خاض ولد محمد مبارك إلى جانب قيادات التيار الإسلامي كل التجارب الحزبية، وكان عضوا ثابتا في كل التشكيلات التي تقدموا بها للمجتمع الموريتاني. فكان ضمن الفريق الذي مثل الحركة الإسلامية أيام المنع في حزب تكتل القوى الديمقراطية، وانخرط بفعالية في حملة المرشح محمد خونه ولد هيداله عام 2003، ثم في قيادة حزب الملتقى الديمقراطي "حمد"، وصولا إلى تأسيس مبادرة الإصلاحيين الوسطيين التي استظلت بهيئة ثقافية هي منتدى الشباب لتطوير الثقافة والديمقراطية يقودها محمد ولد محمد مبارك.

وحين قدمت التشكيلة الجديدة لاستصدار ترخيص حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية "تواصل" احتل ولد محمد مبارك رقمه الثابت في قيادة الهيئة الحزبية الجديدة. ومن يومها وهو يتنقل بين المواقع القيادة في الحزب إلى أن اختير عضوا في المكتب التنفيذي الحالي، ثم رأسا للائحة الجهوية لنواب نواكشوط.

هذبت المنابر السياسية ومقارعة المظالم الوطنية نوازع المثالية في نفس ولد محمد مبارك، فلم يعد ذلك الفتى الذي يحلم بإقامة الخلافة بين عشية وضحاها، لكنه بقي متمسكا بروح المناضل الذي لا يحسن التنازل عما يعتقده صوابا، وقلما يهزم في الملفات التي يدافع عنها.

ظهرت بوادر الواقعية في اختيار محمد تنكب سبيل الوظيفة العمومية حين تخرج، واختار كسب رزقه من القطاع الخاص، لأنه لم يرد كسب قوته على حساب قناعاته، ومنعته بقايا المثالية من الانحناء لمقتضيات الوظيفة.

وجد في العمل في قطاع الصيد ضالته؛ فمن هناك يمكنه التعرف على حجم النهب الذي تتعرض له أهم ثروة وطنية، ومنه يمكنه اكتساب خبرة للزمن الآتي، وظل يدير إحدى الشركات هناك، إلى أن أرغمته الواجبات السياسية على التفرغ، فلم يكن ليوازن بينما يراه واجبا جماعيا يجب أن يستفرغ فيه الجهد، وبين الضرورة الفردية التي تقدر بقدرها، وهو ما يُكسب الكفاف؛ فجيل محمد من الدعاة لم يحلموا بعيش الرفاه الذي تنافس فيه المتنافسون بعد ذلك.

المهارة التي يعتقد ولد محمد مبارك أنه يجيدها بكفاءة عالية هي الدفاع عن قناعته بخطاب بين مسترسل يرفض صاحبه التوقف في منتصف الطريق، أو تأجيل شيء مما يجب قوله إلى فرصة لاحقة.

يتحدث ولد محمد مبارك الإنجليزية والفرنسية، بطلاقة، لكن لغته الأثيرة هي تلك التي قرأ في وصايا أستاذه البنا أن الحديث بها سنة؛ فامتزجت حسانيته بمفردات اللغة العربية التي اعتاد التفكير بها، والتعبير عن المواقف السياسية، والثقافية.

سيكون صوت ولد محمد مبارك في البرلمان عصيا على الإسكات، عصيا على الالتباس بغيره، عصيا على الإيقاف في منتصف الفكرة، عصيا على البيع، عصيا على التوجيه إلى غير تلك القناعات التي تزيدها الأيام رسوخا.

 

اسماعيل ولد محمد