العمل السياسي بين مطلب الاحتراف وثوابت الفكرة / صبحي ودادي

ثلاثاء, 10/01/2017 - 10:31

المفهوم المتعارف للسياسة أنها فن الممكن، كأنها السعي العملي لتجسيد الأهداف المرغوبة في واقع مليء بالتحديات والممكنات.

وابتداء يجب التسليم بأن التصورات الإطلاقية والرؤية الحدية لدوائر التدخل وبناء المواقف تنافي الفعل السياسي، فالسياسة هي فن ابتكار البدائل والخيارات المتعددة، وهذه خلاصة عقلية واضحة، ولها علاقة بمنهجية السير وفق مقتضيات الأولويات والقدرات، كما تجد تأصيلها في مفاهيم السياسة الشرعية التي تسعى للتأثير في الواقع المتقلب المليء بصراع الإرادات والقِوى بتحصيل أهم المصلحتين بتفويت أدناهما عند التعارض ودرء المفاسد باحتمال أخفهما عند التلازم.

هذه “البراغماتية” التي تعكس الروح العملية تكون مقبولة جدا في إطار الفهم السليم لها دون أن توظَّف لتفويت التفكير في المؤسِّسات التي يصبح الكسب بدونها كسبا للسراب ..إذ أن هناك فرقا بين الاحتراف السياسي وبناء عقلية رجل السياسة وبين فقدان الوجهة وغياب الناظم الذي يضمن السير في اتجاه تحقيق الهدف السياسي مهما بدا الطريق شائكا وصعبا ومهما كانت الدربة في مسالكه مغرية بالتزحلق والذهاب مع كل المنعرجات وفي كل الاتجاهات..

استحضار الوجهة إذن لازم أولا قبل استخدام الأدوات حتى لا يتورط السياسيون الإسلاميون في تعبيد طريق لا يصلهم بالغايات والمرامي التي خاضوا معترك التدافع السياسي ابتغاء نيلها.

صحيح أن العمل السياسي ليس خطابا إطلاقيا، ولا تمنيات حالمة منبتة عن واقعها، ولكنه أيضا ليس عملا بلا روح، خصوصا إذا كان أصحابه ملزمون بالتمسك بوشاح أخلاقي هو مبرر وجودهم.

فالعمل السياسي الإسلامي ينبغي أن يشمل بعدين: بعد احترافي يرمي للنجاعة والفاعلية والتعامل مع الواقع، وهو ليس غريبا على العقلية الإسلامية، إنه جملة من  القدرات والمهارات والملكات والاعتبارات التي تتعامل مع الواقع تحقيقا للممكن من الحق والخير في ظل إمكانات الذات وإكراهات أو ممكنات الواقع، ولكن ذلك يتم بالتوازي مع الحفاظ على الثوابت والمنطلقات، إنها جدلية العلاقة بين الوسيلة والهدف، مهما كانت مساحة الوسيلة كبيرة ومغرية.

حين اتضح لحركة التحرير الفلسطينية (فتح) أنها تناضل في واقع صعب إقليميا ودوليا، وأنها باعتبارات ميزان القوى تفقد كل يوم أرضا جديدة في مقابل كيان مدعوم دوليا ومتغطرس داخليا، ولم تستطع الاستمرار في رؤية القوة الأخلاقية التي يمنحها إياها برنامج المقاومة والنضال خطت خطوات متسارعة في سبيل المكاسب المغرية بمقاييس ميزان القوى الظاهر ومقاييس الكسب الإعلامي والسياسي الآني، لكنها خسرت نفسها في النهاية وتحولت إلى كيان آخر بعيد كل البعد عن الاتصاف بصفة حركة تحرير وطنية، ومع الزمن تحولت المكاسب السياسية المرحلية إلى ضرائب استحقاقات طريق آخر برجاله وسياساته، واضطرت الحركة إلى الانسجام مع معطيات وقواعد لعبة جديدة أقصتها شعبيا وقوميا وحرمتها الميزة الأخلاقية التي كانت تنازل بها العدو وتمثل بها الناس.

وبنفس القياس واتعاظا بتلك التجربة فإن الميزة التفضيلية والقيمة المُحتكرة للإسلاميين هي في شق طريق يُمايز الفهم التقليدي للممارسة السياسية القائمة على معيار المغالبة وحدها، وما الذي يجعل الإسلاميين في عجلة من أمرهم ليسلكوا هذا الطريق ؟ ! .. ألم تعظ تجارب المشاركة السياسية التي لم تبن على تهيئة كافية بأن الوصول للحكم أو مقاربة ذلك لا يعنيان وحدهما لا كسبا سياسيا ولا تمكينا عمليا.

لا شك أن البديل عن كل ذلك اتباع منهجيات سياسية تتعاطى مع كل حالة، وفقا لهذه الثنائية، وتلك المنهجيات تتطلب الرؤى، ولا شك أن أخطاء كثير من الممارسات هي نتاج عجز فكري .. والأكيد في كل الحالات أن من يستعجل النجاعة فيتحالف مع الدولة العميقة سيقدم نفسه قربانا لخصمه الأصيل، رحم الله محفوظ نحناح لا أظن موقفه إلا كان موقفا مرحليا من أجل حفظ الجزائر وسمعة المشروع أيام فتنة الهرج والمرج، أما تلاميذه فقد ضيعوا مشروعهم حين تحولوا إلى رُسل للجنرالات بحجة ” الإطار الذي يحمي الصورة الجميلة “، تبين أنه لم يكن هناك إطار والصورة تلطخت كل ملطخ..

 في هذه المنطقة يتداخل الفكري بالسياسي تداخلا مهما، وهنا يصبح الوعي السياسي ضروريا لتقييم الواقع تقييما سليما وهو تقييم ينبغي أن يتم بمنظار الأهداف الكبرى التي يتم السعي لها، بمعنى حضور المرتكزات النظرية التي يتم على وعي بها وضع الأقدام على السكة الموصلة.

وهذا الأمر لا يعني أن تغلب أشواق الهوية على البرنامج السياسي، بل ذلك أمر من صميم ضعف الخبرة السياسية ما لم تلجأ إليه معارك الصراع على روح الأمة، ولكنه يعني خوض السياسة وفق رؤية حاكمة ومنهجية تتعاطى مع مفردات الواقع السياسي والخريطة السياسية، تصور يتقدم البرنامج السياسي كدليل طريق لا يصادر الفاعلية ولكنه يضمن السير وفق هداية المنطلقات ومقتضيات الخبرة والتجربة، وهنا تكسب السياسة حسنتي الأخلاق والقوة.